خمسة استنتاجات من مشهد ترامب زيلينسكي
نقاش حادّ بين ترامب وزيلينسكي في البيت الأبيص (28/2/2025 Getty)
صدق الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، إذ اعتبر أن صدامه أمام كاميرات الصحافيين مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، في أثناء زيارة الأخير المكتب البيضاوي في البيت الأبيض، سيوفّر مادّة تلفزيونية مثيرة. لكن ما لم يتوقّعه أن ذلك المشهد يمكن أن يكشف للعالم كيف يفكّر هو وإدارته في القضايا الدولية وملفّاتها الحساسة، وأيّ قدر من السياسة والدبلوماسية يتوافر عليه.
يمكن من تحليل الجدال الذي جرى علناً بين الرجلين، بمشاركة نائب الرئيس الأميركي جي دي فانس، أن نخرج بسبعة استنتاجات بشأن الطريقة التي يفكّر فيها ترامب، ويدير من خلالها سياسة بلاده الخارجية: أولاً وهم التفوّق. اتضح من المشهد أن ترامب يعتبر نفسه أكثر ذكاء من الآخرين، بمن فيهم الرؤساء الأميركيون الذين سبقوه. ولا يقتصر الأمر هنا على جو بايدن، باعتبار أن منافسة شرسة على المنصب خاضها ترامب ضدّه في دورتَين انتخابيتَين، حتى وإن كان بايدن انسحب من الثانية، بل كذلك باراك أوباما وجورج بوش، اللذين ذكرهما بالاسم في لحظة توتّر مع زيلينسكي. هذا يعني أنه لا يفرّق في تفوّقه المفترض بين الرؤساء الجمهوريين الذين ينتمون إلى حزبه، والديمقراطيين الذين يخاصمهم، إذ يعتقد أنه رئيس استثنائي.
القيمة لأوراق اللعب فقط، أي ما إذا كانت ظروفك تسمح لك بأن تقول ما تقول، وليس حقّك التاريخي
ثانياً: شريعة الغاب. النقطة المركزية التي انطلق منها ترامب في حديثه مع زيلينسكي مفادها بأن الأخير ليس في وضع يسمح له برفض مساعي ترامب لوقف إطلاق النار مع روسيا أو النقاش حولها، وهو يقصد وضع بلاده من الناحيتَين العسكرية والمالية، لأنه استند إلى مداخلة نائبه أن الأوكرانيين يواجهون مشكلات في تجنيد مقاتلين، كذلك إلى قناعته بأنهم يعتمدون على السلاح الأميركي، الذي لولاه لحسمت روسيا الحرب في أسبوعين. الرافعة الأساسية في مواقف ترامب، إذن، ليست فكرة الحقّ، وليست العدل، بل ما يملكه الآخر من "أوراق اللعب"، على حدّ تعبيره، في مواجهة زيلينسكي. وبالطبع، الحقّ والعدل نسبيان هنا، ولا يعني هذا أن زيلينسكي يمثّلهما بالمطلق، بل يمثّلهما من وجهة نظر المبادئ السياسية الأميركية، التي كان يدافع عنها بايدن، باعتباره ابن السياسة الأميركية التقليدية، وقوامها المصالح الاستراتيجية لبلاده في العالم، والتي لا تعتبر عادلة من وجهة نظر شعوب كثيرة تضررت منها، لكنّها عادلة من وجهة نظر السياسة الأميركية. تلك المبادئ كلّها ضرب بها ترامب عُرْضَ الحائط، ولم يعتبرها ذات قيمة. القيمة لأوراق اللعب فقط، أي ما إذا كانت ظروفك تسمح لك بأن تقول ما تقول، وليس حقّك التاريخي.
ثالثاً: الفوقية. في لحظة ما، كان يمكن للجدال أن يتوقّف، وللتوتّر أن ينخفض، لو أن زيلينسكي نطق كلمة شكر وثناء وامتنان لترامب. قال جي دي فانس، بعد سلسلة من الأسئلة وجهها إلى الرئيس الأوكراني، "هل تشعر بالامتنان لجهود الرئيس ترامب في وقف إطلاق النار؟"، فلمّا بدأ زيلينسكي حديثه راح يجيب عن الأسئلة بالترتيب، بينما كان ترامب ونائبه يتوقّعان منه أن يبدأ بالثناء وإظهار الامتنان، وهذا ما أثار حفيظتيهما، فقاطعه ترامب ولم يتركه يكمل كلامه، ولو أنه سمع من الشكر والثناء ما يطفئ عطش نرجسيته قبل أيّ حديث آخر، لسمح لزيلينسكي أن يجيب عن أسئلة فانس حتى النهاية. عليك، إذن، أن تتعامل مع ترامب بدافع من شعور الدونية والتذلل حتى يقبلك، وهكذا ينظر هذا الرئيس إلى العالم كلّه.
رابعاً: الفضائحية. لا ريب أن التاريخ عرف خلافات سياسية ونقاشات حادّة وتراشقاً في الكلمات بين رؤساء وقادة، خصوماً كانوا أم حلفاء. لكنّ العادة جرت أن يتمّ ذلك خلف الكواليس، وفي الغرف المغلقة، وليس أمام عدسات المصورين والصحافيين. أمّا في حالة ترامب فهي ليست المرّة الأولى التي ينقل فيها جدالات الظلّ إلى العلن، وليس أدلّ على ذلك من حديثه العلني عن خطّة تهجير أهل غزّة إلى الأردن ومصر. ولو أن رئيساً آخر أرادها لخطّط لها وتحدّث عنها في السرّ، حتى يتلمّس فرص تنفيذها من عدمها. لكن ترامب يدير المشهد العالمي بفضائحية، معتقداً أنه يوظّف الإعلام لإحداث رأي عام يسانده. هكذا قال بنفسه في خضمّ تلاسنه مع زيلينسكي، موضّحاً أنه سمح للجدال أن يستمرّ أمام الكاميرات كي يرى الأميركيون كيف تدور الأمور مع الرئيس الأوكراني. وهذا على أيّ حال ليس سلوكاً طارئاً على الرجل، فهو ظلّ يستعمل وسائل التواصل الاجتماعي طوال السنوات الماضية لصناعة رأي عام يسانده، سواء خلال وجوده في الرئاسة أو خارجها، ويبدو أنه يعتقد أن ذلك كان فعّالاً، بدليل عودته إلى البيت الأبيض.
لا ينظر ترامب إلى السلاح الذي قدّمته بلاده إلى أوكرانيا وسيلةً لترسيخ مكانة الولايات المتحدة وهيمنتها، بل يراه على شكل 350 مليار دولار هي قيمته المالية
خامساً: المال. ليس مقصوداً بهذه المسألة الحسابات الاقتصادية. لا، المال يختلف عن الاقتصاد كما هو معلوم، فالرئيس الأميركي ينظر إلى علاقاته الدولية من باب المكاسب والخسارات المالية قبل أي اعتبار آخر. لا يؤمن على ما يبدو أن ثمّة "أشياء لا تُشترى"، كالكرامة الوطنية والمبادئ العليا والسُّمعة العالمية والمكانة، بوصفها مرجعية لنصرة المظلوم ومواجهة الظالم. هو مثلاً لا ينظر إلى السلاح الذي قدّمته بلاده إلى أوكرانيا وسيلةً لترسيخ مكانة الولايات المتحدة وهيمنتها، بل يراه على شكل 350 مليار دولار هي قيمته المالية. قوى كبرى تدرك ذلك في تعاملها مع ترامب، وفي مقدّمتها الصين، ولذلك بدت بكّين أكثر ارتياحاً لعودة ترامب من استمرار بايدن أو نائبته كامالا هاريس، فالرئيس بايدن عقد استراتيجية الردع المتكامل تجاه الصين وطوّقها بتحالفاته مع جيرانها من دون اعتبار للحسابات المالية. لا يفعل ترامب هذا، فيمكن التفاهم معه من خلال المال.
في المحصلة، ثمّة ما يمكن أن نستخلصه في شأن قضايانا العربية. خطط ترامب تجاه بلادنا، بما فيها قطاع غزّة، تحكمها فكرة "أوراق اللعب". هو مثلاً يرى أن أهل غزّة لا يملكون أوراق لعب تخوّلهم أن يكون لهم رأي في مستقبلهم، بينما رأى أن هيئة تحرير الشام قامت بعمل جيد حين نجحت في قيادة الثورة السورية وباتت تمسك بأيديها أوراق اللعب في سورية، رغم أن بلاده تصنّفها على قوائم الإرهاب. كذلك يمكن أن تتغيّر خططه لو وجد إغراءً مقنعاً ببديل مالي، فالمال معياره للتخطيط، ولا قيمة عنده لـ"الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني" مثلاً. تلك لغة لا يفهمها بشأن بلاده، ولا يفهمها بالطبع بشأن الآخرين الذين ينظر إليهم بفوقية، ولهذا السبب لا يفهم كيف أن دولاً عربية تقول له "لا"، بينما تتلقّى معونةً ماليةً من بلاده. إنه أمر يثير استغرابه كثيراً.