خليّة النحل المجنونة

01 يونيو 2025

(Getty)

+ الخط -

يُجمعُ الكوكبُ على "حُبّ النحل" في يوم 20 مايو/ أيار من كلّ عام، نزولاً عند قرار منظّمة الأمم المتّحدة تحديده يوماً عالميّاً للنحل، اعترافاً بالمخاطر التي تتعرّض لها هذه الملقّحات، إلى جانب الفراشات والخفافيش وغيرهما، وتنويهاً بمساهمتها في التنمية المستدامة والمحافظة على التنوّع البيولوجيّ. تُذيع المنظّماتُ الدوليّة بياناتها الصدّاحة. تنتشر صورُ نحلاتٍ لا يعرفها إلّا الفوتوشوب. في حين يكتشف المواطنون الأفاضل كَم هُم معنيّون بالبيئة، فيحتفلون بالنحل في الساحات والمدارس والفضائيّات، ويتقاسمون منشورات على مواقع الإنترنت تقول: "أنقذوا النحل". ثم تطنُّ بعوضةٌ من هنا أو ذبابةٌ من هناك، فيرشّون بيوتهم وحدائقهم بمبيد حشريّ فتّاك، لا تنجو منه نحلةٌ واحدةٌ من تلك التي وقعوا في غرامها قبل قليل. ذاك هو اليوم العالميّ للنحل، على غرار اليوم العالميّ لحماية البيئة أو لحماية الطفولة. يوم كونيّ مخصّصٌ لحشراتٍ صغيرة، يبدو أنّ العالم يحبّها جدّاً، لذلك يبرع في قتلها وإبادتها بكلّ تفانٍ وإخلاص.

"النحلُ روحُ البيئة ولدينا خطّة لإنقاذه" هكذا يقولون. الخطّة تتضمّن، كالعادة، إنشاءَ لجنةٍ ثم عقدَ ندوةٍ ثم كتابةَ تقريرٍ يُطبع على أوراق صُنِّعت على حساب الغابات التي يسكنها النحل. لذلك تُبَلَّطُ الساحاتُ التي كانت تُزرع فيها الزهور، لتحلّ محلها متاجر تُقدّم "عسلاً صناعياً منخفض التكلفة". ويغتنم "صانعو المحتوى" الفُرصةَ للمشاركة في عرض أزياء، مع الوعد بأن 2% من الأرباح ستُمنح لمؤسسة خيريّة اسمها "أنقذوا النحل"، لا يعرف أحد عنوانها. وكثيراً ما ترتفع أصوات أطفال المدارس وهم يردّدون "محفوظات" في امتداح "النحلة العاملة"، لا أثَرَ فيها لعسلِ الشعر، وليتَها كانت بإمضاء المعرّي على سبيل المثال: «قد غَدَت النحلُ إلى نورها، ويحَكِ يا نحلُ لمن تكسبين..."، أو بإمضاء فيكتور هوغو الذي تضرّع إلى الربّ كي يحفظ أحبّته وكذلك أعداءه، عند انتصار الشرّ، من أن يروا "خليّةً بلا نحل".

ولعلّك تصغي إلى هذه الجوقة تتفانى في إعلان ولَعِها بالنحل، وفي الإقرار بحاجتِها إليه، فتسأل: من الذي يقتل النحلة إذَنْ؟ من يدمّر خلاياها؟ من يغمر الأزهار بالسموم؟ من يقطع الأشجار من أجل ملهى أو موقف سيارات؟ والحقّ أنّك تكاد تضحك لرؤية هذا الاحتفال بكائنٍ ثمّ الشروع في إبادته، لولا أنّك تشعر برغبة في البكاء. ولم لا تفعل؟ وماذا يكون النحل إلى جانب الإنسان الذي يحتفل حِيتانُ العالم بأيّام سلامه وحريّته وكرامته وسائر حقوقه، ثمّ ما إن تسنح لهم الفرصة حتى يكشّروا له عن أنيابهم، فإذا هم يجرفونه بالجرافات ويدعسونه بالدبابات ويقذفونه بالمدافع ويفجّرونه بالطائرات؟ انظر إلى ما يحدُث في كثير من جهات العالم. انظر إلى ما يحدُث في غزّة.

تحوّلت النحلة في المخيال المعاصر إلى رمز مثاليّ لانضباطٍ معيّن. إنّها نموذج الإنتاجيّة والعمل الجماعيّ أحاديّ الاتّجاه. يقول مؤلّفو كتب التنمية البشرية: "كن مثل النحل. أسّس شركتك على نموذج خليّة النحل. تصرّف مثل النحلة العاملة. حفّز أعوانك مثلما تفعل ملكة نحل. عامل موظّفيك معاملة النحل وسينتجون لك العسل...". يقصدون أنّ النحل لا يشتكي. لا يطالب بحقوق. لا يشنّ إضرابات. إنّه يكتفي بالعمل حتى الموت. وهو يموت حتّى حين يدافع عن نفسه. طبعاً، لا أحد يسأل النحلة عن رأيها. لا أحد يوقّع معها عقدَ عمل. لا أحد يكلّف نفسه عناء التأكّد من أسباب سعادتها بحياةٍ لصالح الغير.

ذلك أنّ النحل لا يردّ حتى حين يُسأل. لا يغرّد، لا يُعلّق. لا ينشر بيانات. فقط يختفي بهدوء. كأنه يعرف أن الضجيج لن يُعيد الزهور ولن يوقف الموت. لقد أصبح العالم شبيهاً بخلية نحلٍ مجنونة، بلا ملكة، أو بأسوأ ملكة: كثيرة الطنين، قليلة العمل، تنهش ما تبقّى من الرحيق، ثم تعلن أن السبب هو تغيّر المناخ. هذا إذا لم تنكر أصلاً أنّ المناخ يتغيّر. والحقّ أنّ هذا العالم لا يحبّ النحل، بل يحبّ نحلةً بعينها. النحلة التي تعمل ولا تطالب بحقوق. يمدحها لأنها لا تحتجّ ولا تتظاهر ولا تطلب زيادة في الأجر. ذاك هو النموذج المفضّل لنظام عالمي يريد أن يستغل خليّة النحل المجنونة حتى آخر نحلة. عالم يسودُه متعجرفون قساة، لا تعترضهم نحلة إلّا أبادوها، معترفين بأنّهم يحبّونها أكثر بعد موتها، ذارفين عليها دموعاً صناعية.

شاعر تونسي ومترجم من الفرنسية.
آدم فتحي
شاعر تونسي ... وشاعر غنائي ومترجم من الفرنسية.