خطّة للخروج من الجورة

خطّة للخروج من الجورة

07 اغسطس 2022
+ الخط -

الخروج من الحفرة، أو الجورة، أمر معقد، يتطلب خطواتٍ عديدة، ومتسلسلة: أولها؛ أن تتوفر لدى المقيمين فيها رغبة جماعية في الخروج. تبدو هذه المعلومة غريبة، ولا بد أن يسألك سائل: هل يعقل أن يوجد في الحياة أناسٌ يحبون أن يمضوا أعمارهم في جورة؟ الجواب: يا لطيف! ويا ساتر! ما أكثر الناس الذين يتهيّبون صعود الجبال، كما قال أبو القاسم الشابي، ويفضّلون أن يعيشوا أبدَ الدهر بين الجُوَر.

هنا، يجب أن نتبع الخطوة الثانية، وهي أن نقنع هؤلاء القوم بأن يشتركوا معنا في اتخاذ قرار الخروج. صحيح؟ طبعاً، ولكننا سنكتشف، للتو، أن هؤلاء لا يحبون العيش في الجورة هكذا على الهسّي (سراً)، بل علناً، وبكل تصميم وإصرار، بدليل أنهم يبذلون جهداً استثنائياً لإقناع أصحاب الرغبة في الخروج بأن الإقامة (تحت) أحسن من فوق، وأكثر دفئاً أماناً، وإن كنتم تسألون عن فوائدها، فهي لا تُحصى. نسألهم: كيف؟ فيوضحون لنا الأسباب: إذا كنتم تعيشون فوق، على سطح الأرض، مَن يضمن لكم ألا يأتي سيل يجرفكم؟ أو أن تهب عليكم رياح عاتية تقتلعكم؟ أو أن يقتتل فصيلان مسلحان ينتميان إلى الدين نفسه، والمذهب نفسه، والقومية ذاتها، حولكم، فتصيبكم رصاصات طائشة، فتموتون، ثم لا تجدون مَن يصلّي عليكم، ويدفنكم كما يليق بكل الكائنات الحية؟ أو أن ينزل فوق رؤوسكم برميل أسدي، أو صاروخ روسي يجعل الشقفة الكبيرة فيكم بحجم السمسمة؟ ثم إن "تحت"، يا جماعة "وهنا تبدأ الخطابات" قريب من الجذور، وأنتم تعرفون أن التشبث بالجذور يحمي أمتنا من المؤامرات، ومن الغزو الثقافي، والهجمات الاستعمارية الشرسة.

لنفرض، جدلاً، أن أفراد ذلك الفريق "التحتي" اقتنعوا، بعد أخذ ورد وهياط ومياط، بكلامكم، ووافقوا على الخروج بصحبتكم من الجورة. هنا عليكم أن تفرحوا، وتهيّصوا، ويأتي الطبال والزمار والدبيكة، ويطلق المسلحون منكم النار في الهواء، ابتهاجاً بهذا القرار العظيم، والنسوان يزغردن. ولكن، حذار نسيانَ أنكم ما تزالون في الجورة، وأن الخطوة التالية (الثالثة) هي إقناع الجميع بالتوقف عن الحفر.. فإن أصرّ بعضهم على ذلك، يجب أن يتفق الآخرون على تشكيل قوة حكومية (بوليسية) تمنعهم من الحفر بالقوة، وتصادر رفوشهم وجواريفهم، وتلاحق الذين يخبئون بعض أدوات الحفر في أماكن سرّية. ولكن الأمر ليس بهذه البساطة، سيقولون لكم إنكم تعمدون إلى تجريدنا من أدوات إنتاجنا، وأسلحتنا، خدمةً للإمبريالية والصهيونية. ثم يستدركون قائلين إنكم لستم عملاء للإمبريالية والصهيونية بالضرورة، ولكن هذا العمل يصبّ في مصلحتهما ضربةَ لازب.. ووقتها، كلمة منكم، وكلمة منهم، تحتدم المشكلة، وتتدخل الشياطين بوساوسها الملعونة في الصدور، فتتسع الدائرة، وتتحوّل إلى صراع دامٍ، طويل الأمد، ويمكن أن يكتب المؤرّخون، فيما بعد، أن حرباً أهلية ضروساً نشبت بين فريقين رئيسيين من القاعدين في الجورة، ويقارن كتّاب ومؤرّخون بمقاربة الأسباب، والعوامل، والظروف التاريخية للفتنة، والمطابع تعمل بكامل طاقتها في طباعة المؤلفات التي تتناول حرب الجورة، والمحللون السياسيون يتصدّرون في استوديوهات المحطات الفضائية، ويقول قائل منهم: قصة الجورة واحد تنين تلاتة، توكلوا على الله.

المشكلة الكبرى أن السعي إلى تجاوز الفرضيات، بقصد تسهيل المناقشة، ينقصه الحكمة والموضوعية، بمعنى أن التغاضي عن فكرة نشوب حرب أهلية (تحت) فيه كثير من التفاؤل.. ومع ذلك، سننتقل إلى الخطوة الرابعة، وهي الأصعب، لأن كلا الفريقين المتنازعين يعملان على تطبيق المثل الشعبي "ما أوله شرط آخرته السلامة". سيقولان إننا، قبل أن نعمل على الخروج من الجورة، يجب أن نتفق على دستور، نحدّد فيه اسم المكان الذي سنقيم فيه (فوق)، وعلى خريطته الجغرافية، مرجعيته الفقهية، ونوعية سكانه، والمادة الثانية منه، والسابعة..

وهكذا .. يستمر البقاء تحت، إلى حين أن تنضج الظروف.

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...