خطاب السلطة في مصر لمعالجة الأزمات

خطاب السلطة في مصر لمعالجة الأزمات

04 مايو 2022
+ الخط -

تباينت ردود الأفعال على خطاب الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، في حفل إفطار الأسرة المصرية، الذي تناول عدة ملفات، تمثل تقدير موقف للمسار السياسي والاقتصادي في البلاد، وتحليلاً للأزمة من وجهة نظر السلطة، منذ 30 يونيو/ حزيران 2013، بما فيها من تحدّيات مكافحة الإرهاب وملفي الإصلاح الاقتصادي والسياسي، والعلاقات الخارجية والتعاون الإقليمي. وفي مجمله، يحلّق الخطاب فوق الطبقات، وينفي انحياز السلطة إلى تيار سياسي أو طبقة اجتماعية، ويهدف إلى تجديد الثقة بالسلطة نفسها، وإقرار الولاء لها، عدا عن أنه تضمن إيضاح إنجازاتها وتفرّد قدراتها على مواجهة التحدّيات في مقابل سلطات سابقة لم تكن جاهزة لتولي الحكم (الإخوان المسلمون) ومتنافسين آخرين ليسوا أحسن حالاً (أحمد شفيق وغيره)، بينما استطاع الحكم إنقاذ مصر من مسار دول الثورات التي انزلقت نحو مصائر خطرة، الحرب الأهلية وفشل الدولة وتفكّكها والإفلاس الاقتصادي، مع إقرار بأهمية الدعم العربي، المالي الخليجي للنظام، وصبر المجتمع وتحمّله أعباء الإصلاح الاقتصادي.

وعموماً، يمكن تلمّس قدر من التغير في بنية الخطاب ولغته مع ثبات للمنطلقات والمستهدفات، وتتمثل أوجه التغيير بمخاطبة الأطراف السياسية وقوى المجتمع المدني، ورجال الأعمال، وإعلان هيئات للحوار السياسي، والنظر في ملف السجناء، وعرض ملفات اقتصادية وسياسية تمثل أزمة، وذلك ساهم في إثارة النقاش، وخصوصاً في دوائر ما بقي من مجتمع السياسة، الذي جرت مخاطبته بشأن حجم المشكلات وجهود مؤسسات الحكم في مواجهتها، وما يستدعيه ذلك بوصفه موقفاً تالياً، من تعاون (وتكاتف) مكونات النظام (بما فيها المعارضة) للعمل الوطني، ومواجهة التحدّيات، وحملات التشكيك التي تستهدف زعزعة الثقة. بجانب هذا كله، حضرت سمات معتادة للخطاب، منها إبراز دور مؤسّسات الحكم وقدرتها، في مواجهة الأزمات، واعتبارها مركبة الصبغة، متراكمة ورثها النظام، وجاء لتفكيكها، وإنقاذ الدولة والمجتمع، من دون جهوزية لمواجهة الأزمات، القديم منها والمستحدَث، وتصحيح المسار، وتأكيد صحة التوجهات وسلامة المواقف!

 ليست الأزمة في مصر خافية، بما فيها من جوانب سياسية واقتصادية، وما تتركه من مظاهر اجتماعية

وقد يشير الخطاب إلى أن لدى السلطة تقديرات لجوانب الأزمة التي يمرّ بها المجتمع المصري، وأمام احتمال استمرارها، ستنال من صورة النظام الذي تتآكل شعبيته جرّاء الأزمات المعيشية. لذا، جاء الخطاب وكأنه يحمل مصارحةً وكشفاً عن الحقائق، كمقدمة لمعالجة الشروخ التي باعدت بينه وبين فئات المجتمع. وفي الواقع، ليست الأزمة خافية، بما فيها من جوانب سياسية واقتصادية، وما تتركه من مظاهر اجتماعية.

وقد بدا من قراراتٍ اتخذت نهاية "الحفل" الذي غلف الاجتماعي بالسياسي، أن هناك عدة رسائل، يصدُر بشأنها متخذ القرار "التكليفات"، ومنها أن السلطة تبذل الجهد لحل المشكلات، ولا تتجاهل ممثلي قوى المجتمع، بل إنهم شركاء المصير، مجتمعون من مختلف الأطياف على المائدة نفسها، تحت سقف السلطة ورعايتها، وهي تجدّد العهد بالإصلاح والتغيير. وفي سبيل ذلك طرح الحوار، ووجهت رسائل تحمل توجيهاً ودعماً للدور الاقتصادي لرجال الأعمال، وسبقها وضع الحكومة استراتيجيةً لإشراك دور القطاع الخاص وتعظيمه، بعد شكوى بعضهم من منافسةٍ غير عادلة مع مؤسسات الدولة، وكذلك وجهت رسائل إلى الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني، تركّزت على فتح نوافذ التعبير والحوار، وإعادة تشكيل لجنة العفو الرئاسي، وبحث ملف سجناء الرأي. وثالثاً خطاب إلى الفئات الشعبية، حول الحالة الاقتصادية، وشرح أبعادها، وهي حسب رؤية السلطة، نتاج أزماتٍ تفاقمت مع مرحلة اندلاع الثورة، والمرحلة الانتقالية، مروراً بانعكاسات اقتصادية لوباء كورونا والحرب الأوكرانية الروسية، وبالتالي ليست هيكلية، أو نتاج مشكلةٍ في ترتيب الأولويات، أو خطّي التوجهات والانحيازات الطبقية.

يمكن القول إن الخطاب تركز على أزمة المجتمع والدولة، وخصوصاً في بعدها الاقتصادي، وأن لا إمكانية للتجاوز، إلا بالتفاف القوى الاجتماعية حول السلطة التي ستحاور القوى السياسية والشبابية، أو ربما بصياغةٍ أخرى، ومستهدف أوضح، اتخاذ "القوى السياسية" مواقعها الدفاعية عن "الدولة" ومساندتها للعبور من الأزمة عبر تفاهمات.

على الرغم مما لحق بمكونات المجتمع من تفتت أو ضعف، ستترجم تفاعلات الأزمة في سيناريوهات مختلفة، ضمنها عودة السياسة

أما عن ردود الأفعال في ما بقي من "مجتمع السياسة" المنهك والمفتّت، فقد تركز النقاش، أساساً، على الحريات وملف السجناء، بينما كان النقاش بشأن الملف الاقتصادي أقل. ويلحظ أن هناك أربعة اتجاهات: يتمثل الأول بإبداء ترحيب بالخطاب ومراهنة على تفكيك أزمة السجناء بشكل خاص، واعتبار الإفراج عن 41 سجيناً في عفو رئاسي يوجِب التفاعل الإيجابي والشكر. ويمثل هذا الموقف شخوصاً في أحزاب وتكوينات سياسية معارضة، وآخرين استوعبتهم السلطة في أطرها، ضمن تغيرات في ظروف موضوعية وأخرى ذاتية دفعت بعضهم إلى الانتقال بين المواقع وتغيرات في المواقف. بينما أغلب الاتجاه الثاني لا يرفض الحوار، لكنه يُقابل الخطاب بتحفّظ، ويرى أن الوعود بالانفتاح والانفراجة السياسية قد سبق إعلانه، ولم تنتج ثمارها، وما زال هناك آلاف من السجناء في قضايا الرأي، منهم المحبوسون احتياطياً، ويعاد تدويرهم في قضايا جديدة، وتفكيك أزمة السجناء. والحوار، على أهميته، يقتضي خطوات واشتراطات، منها إلغاء سلسلة التشريعات والإجراءات المقيدة لحرية التعبير وممارسة العمل السياسي، وهي ما زالت رهن الاستخدام لضبط حركة المجتمع. وهذا الاتجاه يطالب بإطلاق سراح كل سجناء الرأي، وإحداث تغيرات حقيقية وتفكيك المعضلة السياسية والاقتصادية، ويتعامل مع الخطاب بحذر. وينطلق الاتجاه الثالث من رفض الحوار بشكل كامل، معتبراً أنه لا تغير في توجه مؤسسات الحكم، ولا يفكّك ما تطرحه الأزمة، ولا يعالج جوانبها، غير أنه لا إمكان للحوار مع النظام بناءً على قاعدة استبعاده فكرة السياسة واستحواذه على السلطة ومنع مشاركة كل الأطراف من العمل السياسي، واستمراره في موقعه السياسي مهيمناً، وقد انتزع السلطة، ويقنّن استدامة وجوده بكل السبل. وهناك اتجاه رابع من القوى المعادية للحريات والثورة بشكل مطلق، يتوجس من أي مساحة للحوار بين مؤسسات الحكم والقوى السياسية، ويعتبر الدعوة واستضافة شخصيات انتمت إلى صفوف ثورة يناير، وأعضاء من الأحزاب المعارضة، ولو إصلاحية، تشكل خطوة مقلقة، لأسباب عدّة، فالإفراج عن سجناء كانوا ناشطين سياسياً أو معارضين للحكم يؤثر بالاستقرار، والحوار مع الأحزاب قد يعطي مساحة للوجود غير ضرورية، ولو مستمدة من السلطة، ويؤثّر مستقبلاً بتوزيع الأدوار، وينتقص من مكانتهم ومصالحهم، وقد ينعش السياسية، ويفكّك البنية المغلقة والمنضبطة المعتمدة على رجال السلطة الموثوق بولائهم. ويشبه بعض منهم لقاء الرئيس السيسي، تعبيراً عن التوجس، بحوادث تاريخية سابقة، كما حوارات جمال عبد الناصر وأنور السادات مع المعارضين، وحجز مواقع لهم، وهذه كلها مبالغاتٌ تدل على خوف مما أحرزته هذه الكتلة من مواقع تخشى خسارتها أو ليس لديها ما يؤهلها للبقاء فيها.

وفي كل الأحوال، ودرساً تاريخياً واجتماعياً، تدفع الأزمات المتشابكة والعميقة فئات المجتمع وطبقاته، بما فيها مكونات النظام إلى بحث سبل تفكيك الأزمات، وتفتح أبواب النقاشات السياسية، سواء داخل مكونات النظام وتحالفاته، أو داخل قوى المعارضة حال قدرتها على التنظم، وبناء تحالفات تجمعها. وذلك التفاعل، بين صفوف السلطة أو قوى سياسية، ليس منفصلاً عن سعي الفئات الاجتماعية المأزومة، وغير الممثلة سياسياً، للبحث عن سبل للتعبير عن أزمتها، وابتكار حلول ومخارج، سواء اتخذت أشكالاً فردية تجرّبها، أو قرّرت خوض تحرّكات جماعية، سيفرض الوضع الراهن البحث عن مخارج، خصوصاً في مجتمع اتسمت مشاركته بطابع جماهيري، تجسّدت في الساحات والميادين والمصانع. وعلى الرغم مما لحق بمكوناته من تفتت أو ضعف، ستترجم تفاعلات الأزمة في سيناريوهات مختلفة، ضمنها عودة السياسة.

D75BB17B-0520-4715-86EC-B6995DA95615
عصام شعبان

باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة القاهرة، أحد مؤسسي الجمعية الوطنية للتغيير، عضو المجلس الأعلى للثقافة لدورتين متتالتين، عضو شعبة العلوم الاجتماعية. أحد كتاب الرأى في صحيفة وموقع "العربي الجديد".يقول: "نفعل كما يفعل السجناء، نربي الأمل".