22 يناير 2018
خطابات التبرير في سورية
في الحرب الأهليَّة المندلعة، الآن، في سورية، والمختلطة اختلاطًاً عميقًا مع الثورة السوريّة المسلّحة، توجد عشرات المجموعات المسلحة على الأرض. لكن، يُمكن إدراج هذه الفصائل في ثلاث مجموعات متمايزة من التشكيلات العسكريّة. أوَّلاً، فصائل الإسلام السياسي العسكري، الجهادي والقاعدي والسلفي والأممي الداعشي. ومهمّ التذكير، أنَّ هذه الفصائل تحاول المماهاة بين مشاريعها الخاصّة وقضيّة الثورة السوريَّة، ويقلُّ حضور القيم المعنوية والحقوقية للثورة السوريّة، في خطاب كل فصيل. ثانيًا، الفصائل الكرديّة المسلحّة، وتتمثل بوحدات الحماية الشعبيّة الكرديَّة ووحدات حماية المرأة التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي الممثل الأيديولوجي والعسكري لحزب العمال الكردستاني في سورية. ولهذا الحزب بنية ستالينيّة شموليّة، تحتقر قيم الديمقراطيّة الليبراليّة بشكل مباشر. وتسوق هذه القوة العسكريّة نفسها باتباع خطابين، داخلي قومي، ويعتمد على الحميّة العصبيّة القوميّة الكرديَّة من أجل التحشيد والتعبئة، وخطاب خارجي أيديولوجي، ينهل من أدبيّات اليسار التحرري المعاصر، مثل حق الشعوب في تقرير مصيرها، والعدالة الاجتماعيّة، والمساواة المطلقة بين الرّجل والمرأة، وحقوق المثليين. ثالثًا، الجيش السوري النظامي (عانى من انشقاقات من طبيعة أهليّة مذهبيّة، جعلته يتحوّل، مع مرور الزمن، من قوة دولة عموميّة إلى مليشيا شبه أهليَّة)، ومليشيات حزب الله اللبناني، وقوات الحرس الثوري الإيراني، والقوات الروسية النظامية والشيعة الأفغان.
ثمَّة ملمحٌ أصيل تشتركُ به هذه المجموعات الثلاث، وهو مساومة البيئات المحليَّة الخاضعة لسيطرتها، بين مسألتي الأمن والسياسية. أي نزع الإرادة السياسية الحرّة من المخضّعين، مقابل إحقاق الأمن والاستقرار ومتطلبات العيش اليومي من الخاضعين. الخبز الذي كان أحد أسباب خروج الناس، صار أحد طرائق السيطرة على الناس.
ولعلَّه فصام عميق عن الواقع، القول إن هذه المجموعات الثلاث مجرّد جماعات مسلّحة منفصلة عن الصلب الأهلي، بالمعنى العددي المباشر، وإنَّ شرعيّتها الاجتماعيَّة ضئيلة أو عمقها الأهلي معدوم. بل تعبر هذه المجموعات الثلاث، بشكلٍ أو بآخر، عن الرهانات السياسية للجماعات الأهليَّة الكبرى في سورية، بل هي التعبير الأكثر راديكاليَّة عن الصراع الاجتماعي- السياسي الذي تعيشه سورية الآن، والذي لا يختصرُ بكونه نِزالًا عسكريًا بين مجموعات نخبويّة. بل هو التناقض المُتَفجَر والأكثر عنفًا لأوضاع سياسية- اجتماعية- اقتصادية معينة. إنَّه اضحملالُ إرادات الأفراد، أمام تضارب إرادات الجماعات. لذلك، فإنَّ سرديّة "ثورة شعبيّة- نظام مستبد" لم تعد كافيّة للفهم وللإحاطة بهذا الصراع المتعدد الأعماق.
ومنه، لا يندرُ أن تجد شخصاً في سورية الآن، لديه فردٌ يخصّه، إما بالقرابة المباشرة أو
بالقرابة غير المباشرة في إحدى هذه التشكيلات العسكريَّة. أشخاص كانوا مقرّبين منك، أصبحوا الآن مدجّجين بالأسلحة، يقتلون ويُقْتلَون، ينتهكون ويُنتَهَكون. ولعلّه هذا يشكلّ حرجًا نفسيّاً مؤلماً، ويسبب إيلامًا داخليًا كبيرًا. السؤال هنا، كيف يمكن التصالح مع فكرة أنَّ مسلّحاً معبأً بأيديولوجيا ما، قريباً منك وربّما أخوك، تربطك به وشيجة دم أصيلة، أو خزّان ذكرياتٍ عتيق، قادرٌ على ارتكاب مجازر وانتهاكات ومذابح. ما الموقف الذي ينتج من هذا الصراع النفسي المحتدم بين العاطفي الخاص، والعقلي العام. هل سيتمُّ إدانة التجاوز بشكل واضح وصريح ومباشر، وبلغة تسمّي الأمور بمسميّاتها، وتحمل كلّ طرف ثقل مسؤوليّته الواقعيَّة بوضوح. أم سيتمُّ ابتكار خطاب تبريري تمويهي، يشكك بمجازره ضد الآخرين، في حين أنَّه واثق من مجازر الآخرين ضده؟. مجازر "هم" دومًا واضحة، ولا تحتاج إلى توثيق، أمَّا مجازر "نا" فغير واضحة، وبحاجة إلى تقصٍّ. وإن اعتراف أصحاب هذا الخطاب، فسيوضع اللوم على "عناصر غير منضبطة"، أو "تشفيّ موضعي"، وغير ذلك من التبريرات.
في الحقيقة، نمتلك، الآن، في سورية، بالتوازي مع سلطات الأمر الواقع الثلاث هذه، ثلاثة خطابات تبريريّة مرافقة لها، تتلعثم عن ارتكابات جماعاته المسلّحة ضد الآخرين. ويصيح كالديك الفصيح عند حدوث الانتهاك ضد جماعاته: الأوّل، خطاب تبريري قومي كردي، يصدر من مثقفين أكراد المولد، ويهادن الشعبوية القوميّة الكرديّة الصاعدة الآن، والتي عسكرها حزب الاتحاد الديمقراطي، إذْ يخلط هذا الخطاب بين الحق الأصيل الأكيد للأكراد في الدفاع عن وجودهم السياسي ومناطق وجودهم، ومشروع الهيمنة التسلّطي للحزب. الثاني، خطاب تبريري سني عربي، يصدر من مثقفين سنيي المولد، إذْ يتمُّ غض النظر عن الانتهاكات التي تقوم بها الفصائل الإسلاميّة، بالخلط بين المظلوميّة السنية التي تمتلك الآن طاقة إقناع تفسيرية معقولة (التدخل الإيراني والعربدة الروسية والدوليّة وإجرام آل الأسد) ومشروع التوسع الاحتلالي للإسلام الجهادي. الثالث، خطاب تبريري أقلويّ أسدي، يصدر من مثقفين علويي المولد، أو من مثقفين أسديين يرون في النظام السوري ممانعًا ومقاومًا. وهذا الخطاب أكثر الخطابات هزالة وركاكة وانحطاطاً أخلاقياً، ويفتقر الآن إلى أية معقولية.
يصدر خطاب التبرير، بالدرجة الأولى، من الخوف على الأهل، ولكن، هل تشتق السياسة من الخوف على الأهل، أم من تغليب الحس العام عليه؟. ثمَّ ألا يتعارض خوفك على أهلك مع خوف آخر على أهله؟. أليسَ خائضو الحروب الأهليَّة أناساً خائفين على أهلهم؟.
أحد أشكال الكفاح التحرري، باعتقادي، هو مواجهة الأفكار السائدة في البيئة المحليَّة الخاصَّة، هو الخوف العقلي من الخوف العاطفي على البيئة المحليّة حصرًا.
قبل حوالي سنتين، رأيتُ على صفحة التواصل الاجتماعي نعياً منشوراً عن مقتل صديقي من القامشلي، كان مقاتلًا في وحدات الحماية الشعبيّة الكرديَّة، وقتل في أثناء الاشتباكات مع تنظيم الدولة. تذكّرته في المدرسة طفلًا يعاني من سهاد خفيف في عينه. من يدري، ربما كان قاتلًا قبل أن يقتل، ربما حرق بيوت آخرين، أو هجر بيوت آخرين، أو قتل آخرين.
يصدر التبرير من أزمة الضمير وأنانية الوجدان، وهو، أوّلًا، يقود الجماعة التي يتم التبرير لمسلّحيها إلى التهلكة. والتاريخ شاهد على ذلك، وسنرى.
ثمَّة ملمحٌ أصيل تشتركُ به هذه المجموعات الثلاث، وهو مساومة البيئات المحليَّة الخاضعة لسيطرتها، بين مسألتي الأمن والسياسية. أي نزع الإرادة السياسية الحرّة من المخضّعين، مقابل إحقاق الأمن والاستقرار ومتطلبات العيش اليومي من الخاضعين. الخبز الذي كان أحد أسباب خروج الناس، صار أحد طرائق السيطرة على الناس.
ولعلَّه فصام عميق عن الواقع، القول إن هذه المجموعات الثلاث مجرّد جماعات مسلّحة منفصلة عن الصلب الأهلي، بالمعنى العددي المباشر، وإنَّ شرعيّتها الاجتماعيَّة ضئيلة أو عمقها الأهلي معدوم. بل تعبر هذه المجموعات الثلاث، بشكلٍ أو بآخر، عن الرهانات السياسية للجماعات الأهليَّة الكبرى في سورية، بل هي التعبير الأكثر راديكاليَّة عن الصراع الاجتماعي- السياسي الذي تعيشه سورية الآن، والذي لا يختصرُ بكونه نِزالًا عسكريًا بين مجموعات نخبويّة. بل هو التناقض المُتَفجَر والأكثر عنفًا لأوضاع سياسية- اجتماعية- اقتصادية معينة. إنَّه اضحملالُ إرادات الأفراد، أمام تضارب إرادات الجماعات. لذلك، فإنَّ سرديّة "ثورة شعبيّة- نظام مستبد" لم تعد كافيّة للفهم وللإحاطة بهذا الصراع المتعدد الأعماق.
ومنه، لا يندرُ أن تجد شخصاً في سورية الآن، لديه فردٌ يخصّه، إما بالقرابة المباشرة أو
في الحقيقة، نمتلك، الآن، في سورية، بالتوازي مع سلطات الأمر الواقع الثلاث هذه، ثلاثة خطابات تبريريّة مرافقة لها، تتلعثم عن ارتكابات جماعاته المسلّحة ضد الآخرين. ويصيح كالديك الفصيح عند حدوث الانتهاك ضد جماعاته: الأوّل، خطاب تبريري قومي كردي، يصدر من مثقفين أكراد المولد، ويهادن الشعبوية القوميّة الكرديّة الصاعدة الآن، والتي عسكرها حزب الاتحاد الديمقراطي، إذْ يخلط هذا الخطاب بين الحق الأصيل الأكيد للأكراد في الدفاع عن وجودهم السياسي ومناطق وجودهم، ومشروع الهيمنة التسلّطي للحزب. الثاني، خطاب تبريري سني عربي، يصدر من مثقفين سنيي المولد، إذْ يتمُّ غض النظر عن الانتهاكات التي تقوم بها الفصائل الإسلاميّة، بالخلط بين المظلوميّة السنية التي تمتلك الآن طاقة إقناع تفسيرية معقولة (التدخل الإيراني والعربدة الروسية والدوليّة وإجرام آل الأسد) ومشروع التوسع الاحتلالي للإسلام الجهادي. الثالث، خطاب تبريري أقلويّ أسدي، يصدر من مثقفين علويي المولد، أو من مثقفين أسديين يرون في النظام السوري ممانعًا ومقاومًا. وهذا الخطاب أكثر الخطابات هزالة وركاكة وانحطاطاً أخلاقياً، ويفتقر الآن إلى أية معقولية.
يصدر خطاب التبرير، بالدرجة الأولى، من الخوف على الأهل، ولكن، هل تشتق السياسة من الخوف على الأهل، أم من تغليب الحس العام عليه؟. ثمَّ ألا يتعارض خوفك على أهلك مع خوف آخر على أهله؟. أليسَ خائضو الحروب الأهليَّة أناساً خائفين على أهلهم؟.
أحد أشكال الكفاح التحرري، باعتقادي، هو مواجهة الأفكار السائدة في البيئة المحليَّة الخاصَّة، هو الخوف العقلي من الخوف العاطفي على البيئة المحليّة حصرًا.
قبل حوالي سنتين، رأيتُ على صفحة التواصل الاجتماعي نعياً منشوراً عن مقتل صديقي من القامشلي، كان مقاتلًا في وحدات الحماية الشعبيّة الكرديَّة، وقتل في أثناء الاشتباكات مع تنظيم الدولة. تذكّرته في المدرسة طفلًا يعاني من سهاد خفيف في عينه. من يدري، ربما كان قاتلًا قبل أن يقتل، ربما حرق بيوت آخرين، أو هجر بيوت آخرين، أو قتل آخرين.
يصدر التبرير من أزمة الضمير وأنانية الوجدان، وهو، أوّلًا، يقود الجماعة التي يتم التبرير لمسلّحيها إلى التهلكة. والتاريخ شاهد على ذلك، وسنرى.