خسائر العدوان الإسرائيلي على الدوحة
فشل العدوان الإسرائيلي على الدوحة في تحقيق هدفه المباشر، لكنه خلّف أضراراً مباشرة وغير مباشرة. ستبقى التداعيات تتفاعل إلى أمد طويل، لأنه تجاوز خرق حدود سيادة دولة مستقلة ومسالمة، توظّف دبلوماسيتها وقدراتها من أجل الاستقرار في المنطقة والعالم، وليست على حربٍ أو خلافٍ مباشر مع إسرائيل، لكنها لا تخفي موقفها الثابت من الوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني، الذي يواجه حرب الإبادة والتهجير الإسرائيلية.
لم تكن قطر واهمةً بصدد عدوانية رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، والمفاوض القطري أكثر طرفٍ يعرف كذبه ومراوغته، ورغم ذلك استمرّت الدوحة بالوساطة، وتحملت الكثير من جرّاء ذلك. تلقّت التهديدات، وتعرّضت لحملات إعلامية، كي تنسحب وتقف موقف المتفرّج الصامت حيال إبادة الشعب الفلسطيني في غزّة، مثل الأغلبية الدولية، ولكنها رفضت ذلك، وبقيت صامدة على موقفها، الذي كشف كذب نتنياهو وتواطؤ الولايات المتحدة وعرّاهما، ولو انسحبت من الوساطة، لما كان للعالم أن يرى بوضوح حقائق الإبادة والتهجير. ... كان موقف الدوحة مثالاً في الشجاعة، الوطنية والأخلاقية، وباعثاً على الإعجاب والتقدير.
أول ضحايا العدوان مصداقية الولايات المتحدة تجاه قطر ومنطقة الخليج والعالم العربي. ومن دون مبالغة، لن تكون العلاقات المستقبلية بين دول مجلس التعاون والولايات المتحدة كما كانت عليه قبل العدوان. قد يستمرّ العمل بالاتفاقات الحالية، ولكنه لن يدوم، وستبحث أغلب دول المنطقة عن شركاء آخرين، بعيداً عن الصيغة التفضيلية الراهنة، التي تتمتّع بها أميركا وأوروبا، فالموقف الأميركي الأوروبي من العدوان مائع، لا يتناسب مع مستوى العلاقات الثنائية والاتفاقات الأمنية والدفاعية المشتركة، وكان لافتاً تصريح رئيس الوزراء، وزير خارجية قطر الشيخ محمد بن عبد الرحمن، بأن الرادارات لم تكشف الهجوم.
سواء كانت واشنطن على علم مسبق بالعدوان أم لا، فإنها فقدت مصداقيتها كلياً شريكاً سياسيّاً، وضامناً أساسيّاً للاستقرار في المنطقة، وما جرى في الدوحة ينسحب على سورية ولبنان والعراق ومنطقة الخليج العربي ككل، وكل مفاوضاتها مع الأطراف العربية في المنطقة من أجل التوصل الى اتفاقات أمنية وسياسية مع إسرائيل لا يمكن أن تؤدي لنتائج، ولن ينظر إليها أحد على محمل الجد، أو يأخذ بها، طالما أن إسرائيل فوق القانون الدولي. وعلى هذا، توسيع اتفاقات أبراهام التي بدأها ترامب عام 2020، سقط من الحساب، بعدما تبين أن نتنياهو لا يحترم أي تعهد، بما في ذلك الاتفاقات التي هندستها ورعتها الولايات المتحدة.
الاعتداء على قطر اعتداء على العرب جميعاً من المحيط إلى الخليج، وقد أثبتت إسرائيل بما لا يدع مجالاً للشك أنها ماضية بمشروعها العدواني التوسّعي في المنطقة، وعملية قصف الدوحة في صلب الاستراتيجية التي تحدث بها السياسيون والعسكريون الإسرائيليون في الأيام الأخيرة حول توسيع حدود ونفوذ إسرائيل في العالم العربي، ومن يرى نفسه خارج الحساب اليوم، سيأتيه الدور غداً، وعلى الدول العربية أن تستفيق من حالة الانكفاء السلبية، التي دخلتها منذ الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، وتفكر جدّياً بما يحمي أمنها ويدافع عن مصالحها، والخطوة الأولى هي تجاوز حال التمزق الراهن، والتلاقي في منتصف الطريق على هدف واحد هو تحصين العالم العربي من الخطر الإسرائيلي، الذي تجاوز كل الخطوط الحمر. وهذا يرتب على القادة العرب أولاً أن يعيدوا إحياء مبدأ الأمن القومي العربي، ثانياً، إعادة النظر بالاتفاقات الدفاعية مع الولايات المتحدة. ثالثاً، البحث عن شراكات وتحالفات دولية جديدة لخلق توازن أمني وعسكري وسياسي واقتصادي، بعيداً عن الولايات المتحدة وأوروبا حليفتا إسرائيل بدون قيد أو شرط، والتوجه صراحة نحو الصين باعتبارها قوة دولية تعمل بنشاط وهمة لكسر الأحادية القطبية.