خريف الأرواح في غزّة

05 نوفمبر 2025
+ الخط -

وفقاً للحسابات الفلكية، بدأ فصل الخريف في فلسطين متزامناً مع ما يُعرف بالاعتدال الخريفي في الثلث الأخير من شهر سبتمبر/ أيلول المنصرم، حيث يتساوى طول الليل والنهار تقريباً في نصف الكرة الشمالي، ويستمرّ هذا الفصل، وفقاً لهذه الحسابات أيضاً 89 يوماً تقريباً، ولكن في قطاع غزّة المنكوب تحديداً لا يمكنك أن تجزم أن ظواهر فصل الخريف تنتهي مع انتهاء هذه الأيام المحددة فلكياً، فإن كان الليل والنهار يتساويان، فالأيام كلها متشابهة، ومنذ أكثر من عامين من القتل والإبادة، ما زال نحو مليوني إنسان لا يعرفون فرقاً بين أيامهم ولياليهم، وما زالت كل آيات البؤس والضياع السمة الغالبة على حياتهم بلا أمل أو أفق، ووسط كل الادّعاءات والشعارات التي تؤكد أن الحرب قد انتهت، وأن المعونات الإنسانية قد زادت لإغاثة المنكوبين فقداً ووجعاً وألماً.

يُعرف فصل الخريف عند العرب بهذا الاسم، لأن الثمار تخترف فيه، بمعنى أنها تُجنى وقد سُمّي أيضاً الوسمي، أي الموسم الذي يتوسّمون فيه هطول المطر، وقد عرف عند الفلسطيني بأنه الفصل الذي يستعدّون فيه لقدوم فصل الشتاء بتخزين المؤنة، والتي تتكوّن أساساً من زيت الزيتون لما له من فوائد صحية، ولكونه يدخل في إعداد كثير من أصناف الغذاء الشعبية الشهيرة، فيما ينتظرون ما يعرف بـ"شتوة المساطيح"، وهي أول ما ينزل من المطر الذي ينظّف أسطح البيوت استعداداً لموسم زراعي وفير. وفيما يستعدون أيضاً لموسم قطف الزيتون وتخزين "الجفت" المتخلف من عصره ليصبح وقوداً للتدفئة في الأيام الباردة، فهم يعيشون على أمل وترقب لموسم شتوي مثمر، خصوصاً حين تمرّ الطيور المهاجرة العابرة سماء فلسطين، مؤكدة على الانقلاب الموسمي ومبشرة بخير كثير.

يحل الخريف في غزّة اليوم، ولكنه لا يوحي إلا بذبول الأرواح في ذلك الشريط الساحلي الضيق، حيث لا موسم للزيتون ولا طعام ليصبح مؤنة وأمناً، بل أصبح الناس البؤساء أكثر ضعفاً وتهالكاً. وبعد عامين من أوضاعٍ لا يمكن لكل المفردات أن تصفها، فالموت كان رفيقاً للجوع، ولذلك أجسامهم ضعيفة وهزيلة، حتى تشفق عليهم، وتتساءل كيف سيتحمّلون البرد القادم، فيما لا يملكون ملابس ثقيلة ولا بيوت دافئة، وقد تُركوا في الخيام المهترئة يواجهون تقلبات الطبيعة، وحيث مرّ أكثر من نصف عام، لم يتذوقوا البروتين الحيواني بأي صورة، فلا لحم أحمر ولا أبيض ولا حتى بيض. ولا أحد يغفل عن أهمية البروتين الحيواني لصحة وبناء الجسم وخصوصاً العضلات، وفيما يترك نقصه أثراً على تركيبة دماغ الإنسان، ويؤدّي نقصه إلى تقلبات مزاجية، تترك أثرها على نفسيته وطريقة تعامله مع المحيطين به.

تكذب إسرائيل ومن يقف إلى صفها بادّعاء إدخال شاحنات من الأغذية إلى مناطق قطاع غزّة المنكوبة الضيقة (نحو 48% من مساحة القطاع الكلية)، والتي حشر فيها أكبر تكدّس سكاني في العالم، ولكن الحقيقة أنهم يتعمّدون إدخال بعض الأصناف التي لا تغذّي الجسم، ولكنها تزيد الوزن فقط، فلا صنف غذائياً مما يسمح بدخوله يحتوي على مصدر للبروتين. ويصرّون على إدخال أصنافٍ، مثل القهوة والشوكولاته ومصادر أخرى للسكريات والنشويات التي تزيد الوزن فقط بلا فائدة صحية، مع منع دخول الأدوية والمكمّلات الغذائية، لكي تصدّر إسرائيل وحلفاؤها إلى العالم صورة انتهاء المجاعة في غزّة، متبعين أسلوباً جديداً من أساليب المجاعة وتفعيل أداة مستحدثة من أدوات الحصار الذي يمارس بكل توحش ضد السكان الذين استهلكت أجسامهم الفيتامينات والمعادن 700 يوم وأكثر من الإبادة والتجويع.

تفقد غزّة اليوم موسمها الذي وهبته لها الطبيعة، وتترك لكي تتحكّم مجموعة من الحيوانات البشرية في مصيرها وصحتها وكل نواحي حياتها. وفيما ينقلب الطقس مُؤذناً بالبرد والمطر والخير الوفير، فالأرواح تعيش خريفاً لا يجب أن يغفل عنه، بل يجب أن يدرّس ضمن أدبيات الإبادة الجماعية التي يقودها نتنياهو، مستعيناً بخبراء تغذية لا يمتّون للإنسانية بصلة.

سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.