حين يكرّر التاريخ أحداثه

21 مارس 2025
+ الخط -

أُنقِذ شخصان عند سواحل قبرص بعد غرق زورق صغير يحمل أكثر من 27 شخصاً، قادماً من مدينة طرطوس السورية، من دون أيّ معلوماتٍ عن مصير باقي المفقودين.. بدأت التغريبة السورية الجديدة، قتل وحرق وخوف وتهجير. سوريون يُقتَلون مجدّداً محمّلين بذنوبٍ لم يرتكبوها، سوريون يُهجَّرون من بيوتهم بعد نهبها وحرقها، ويُترَكون لمصائرهم في البراري والغابات، يتعرّض أولادهم لعنف البرّية، الذي بات أكثر رأفة بالبشر من أبناء جلدتهم. سوريون محاصرون من قوات "جيش وطني" يمنع عنهم الطعام والدواء وحليب الأطفال، بعد منع وسائل الإعلام الأجنبية من الدخول إلى هذه المناطق وتغطية ما يحدث من فظائع.

الذريعة القديمة جاهزة، هي ذاتها لم تتغيّر: مسلحون يريدون تقويض دعائم الدولة يختبئون بين المدنيين، وعليه فيجب الفتك بالمدنيين عقاباً لهم على انتماء المسلحين إليهم. تُستبدل مفردة الإرهابيين السابقة بمفردة الفلول، من دون أن يتغيّر المسار الذي كان سائداً في سورية منذ عام 2011، هناك تبادل للأدوار فقط.

في السابق، قبل سقوط نظام الأسد، كان شبّيحة نظام الأسد يوجّهون تهمة دعم الإرهاب لكلّ متعاطفٍ مع الثورة أو مع الضحايا من المدنيين والأطفال. اعتقل النظام السابق مئات الآلاف بذريعة تمويل الإرهاب، كان هذا التمويل لإغاثة المناطق المنكوبة والمحاصرة من جيش النظام والفصائل المسلّحة التابعة له. اليوم أيضاً، تُطلَق تهمة الفلول أو دعم الفلول على كلّ من يناصر ضحايا الساحل أو يحتجّ على الممارسات الطائفية التي يرتكبها "الجيش الوطني"، أو عناصر من "الأمن العام"، بحقّ المواطنين السوريين. ثمّة شبيحة واقعاً وافتراضاً لكلّ نظام يرتكب المجازر وينتهك حرّية المواطنين وكراماتهم، ويعمل على إذلالهم. ثمّة شبيحة سوريون دائماً ينتهكون حرمة إخوتهم السوريين. هو تبادل للأدوار فقط، يمنع عن السوريين جميعاً حقّهم في العيش الكريم في وطنهم الوحيد.

ثمّة مظلومياتٌ جديدة تحدث أيضاً. مظلوميات مثقلة بإرث دموي وبذاكرة دموية وبضمائر ميّتة. هذه المظلوميات التي تتناقلها أجيال من السوريين تجعل من الضحية السابقة مجرماً لاحقاً، أو أقلّه، مؤيداً للإجرام ومبرّراً له وساعياً إلى خلق الأعذار لسفك الدماء، وثمّة مجرمون دائماً يشتغلون على إبقاء هذه المظلوميات قيد التداول، كما لو أنها مرويات تُتناقل من جيل إلى جيل... بالطبع، فسردية المظلومية الدموية وحدها هي الكفيلة بإبقاء الحقد يتنقل من مكان إلى آخر، ويحمل ما يمكنه من الحكايات التي تقتات عليها فترات السكون. هل راقبتم جحافل النمل تنتقل من مكان إلى آخر وهي تحمل ما تقتات عليه في أوكارها الصغيرة في فترات السكون؟ هذا تماماً ما تفعله سردية الحقد، وهي تراكم التفاصيل، ثمّ يأتي من يستهلكها لخراب المجتمعات والأوطان، مهيئاً المساحة لحكايات جديدة تستند إلى مظلومية جديدة تراكم حقداً جديداً... وهكذا.

عادةً ما تملك الأنظمة الاستبدادية براغماتيةً تمكّنها من الظهور بمظهر حامي المجتمع، من تأجيج تلك المظلوميات وحقن مخرجات سرديات الحقد. اشتغل نظام الأسد في مرحلتي الأب والابن (قبل 2011) على هذا النوع من البراغماتية، ساعده في ذلك أن الطبقة الأوليغارشية المحيطة به كانت مؤلّفةً من "المكونات" السورية كلّها. لكن في الوقت ذاته كانت طوابيره التحتية تعمل في حقن المجتمع بالمرويات عن مظلوميات تعزّز حقداً دفيناً لا يمكن التخلّص منه بسهولة، ظهر واضحاً ما أن بدأت ثورة السوريين في عام 2011، حينها أيضاً تخلّى نظام الأسد الابن عن طوابيره السرّية، وبات علنياً في تكريس الحقد، لكنّه أيضاً احتفظ بمساحة تحميه من التهمة حين أحاط منظومة إجرامه ببطانة من "المكونات" كلّها. كان يمكن لمن جلس في مكان نظام الأسد (بعد هروبه) أن يفضح ما حدث، وأن يقدّم الحقائق كما حدثت، لولا أن منظومته الفكرية ذاتها مبنية على مظلومية دموية طائفية يعود تاريخها إلى ما قبل الألف عام، وتغذّت بقوة بعد ثورة السوريين 2011. كان يمكنه إنقاذ سورية ومجتمعها من هذا الخراب، لولا أنه يدرك أن بقاءه يستند إلى تعزيز هذه المظلومية لدى فئات كبيرة من ضحايا الأسد، وأن عليه أن يقدّم لهم قربانا ليعلنوه بطلاً. هكذا يعيد التاريخ السوري نفسه من دون أن يدرك الشعب أنه وحده الضحية.

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.