حين يتحدّث روبرت فورد باستعلاء رجل أبيض
لم أستطع أخذ حديث السفير الأميركي السابق في سورية، روبرت فورد، في ندوة مجلس بالتيمور للشؤون الخارجية، على محمل الجدّ، ولم أستطع أيضاً التغاضي عنه، ليس لأن ما يقوله بعيد من الواقع أبداً، فنحن في منطقة لم تستقلّ بعد، وكل حديث عن السيادة فيها وهم، لم نختر مصيرنا يوماً، ولم نختر حكّامنا. كلّ ما يحدث لنا سياسياً نتيجة تقاطعات في المصالح الدولية، قد تكون لحظة انطلاق الربيع العربي اللحظة الوحيدة التي استطاعت في البداية النجاة من هذه التبعية، قبل أن يدرك المجتمع الدولي أن عليه السيطرة، ووضع يده مجدّداً على هذه البلاد، عبر تحويل دفّة الربيع العربي في الاتجاه المناسب لمصالحه ومخطّطاته. وهذا ما شهدناه من نتائج "الربيع" وتحوّلاته وافتراقاته ومصائر ثوراته، التي تبدو حالياً كما لو أنها التطبيق الفعلي لنظرية الفوضى الخلّاقة، التي نظّر لها المستشرق البريطاني الأميركي (اليهودي) برنار لويس، وتبنّتها وزيرة الخارجية الأميركية كوندليزا رايس. كما أن الدور البريطاني في توجيه سياسات المنطقة وترتيبها ليس خافياً على أحد، خصوصاً منطقة بلاد الشام، منها سورية بطبيعة الحال، التي يقال إن عهد الأسدَين لم يكن ليحدث لولا الترتيب البريطاني المسبق (نظرية المؤامرة لم يعد من الممكن نقضها مع كلّ ما حدث خلال الستّين عاماً الماضية وعلاقة بريطانيا به).
مع ذلك، لا يمكن المرور على حديث فورد في بالتيمور مروراً عادياً، فالرجل الذي كان في كلمته في غاية الاستعلاء، جعل من محاضرته تلك عن اختيار أبو محمد الجولاني ليصبح أحمد الشرع، ويتحوّل من جهادي إلى سياسي، بطلب من منظّمة بريطانية غير حكومية مثيرة للجدل، بالنظر إلى تاريخ الرجل مع المعارضة السورية خلال العقد ونيّف الماضي. فحتى لو كان كلّ ما قاله فورد صحيحاً، إلا أنه ما من هدف يمكن لهذه المعلومات التي قدّمها أن تحقّقه، فمعظم السوريين، والمعنيين بمصير سورية، يدركون أن وصول الجولاني (رأس هيئة تحرير الشام) إلى قصر الشعب، بالطريقة التي حدثت، لم يكن ليتحقّق من دون رعاية دولية تولّت هي وضع السيناريو كاملاً بعد فهم عميق لشخصية الجولاني، ورغبته في التخفّف من انتمائه الجهادي المتشدّد نحو العمل السياسي البراغماتي (حكايات التحرير مجرّد بروباغاندا، القصد منها تعزيز شعور الانتصار لدى فئات واسعة من المجتمع السوري وتبرير سيطرة هيئة تحرير الشام بأكملها على السلطة في سورية، بذريعة الشرعية الثورية).
من هنا يصبح حديث فورد مزيجاً من استعراض محمّل بكثير من منطق الاستعلاء الغربي الأبيض تجاه واحد من شعوب العالم الثالث، الفقيرة والمبتلية بالاستبدادَين السياسي والديني، وممعن في تكريس حالة التشرذم المجتمعي بين المكوّنات السورية التي أفقدها نظام الأسد هُويَّتها الوطنية، وعزّز بينها الشرخ الاجتماعي بفرضه اصطفافات هُويَّاتية طائفية وطبقية، تظهر نتائجها الآن في ما نشهده من خطاب كراهية مريع، ومن انتقامات تحدث يومياً في كلّ أنحاء سورية، تعزّزها فوضى أمنية عامّة، وغياب شبه كامل لأسس العدالة الانتقالية الحقيقية والشاملة (لا كما تراها سلطة الأمر الواقع) الكفيلة بتمهيد الطريق لخطوات السوريين نحو بناء مجتمع مستند إلى أسس وطنية هي الشرط الوحيد لإنقاذ سورية ممّا هي فيه. من دون أن ننسى توقيت نشر مجلس بالتيمور المحاضرة عبر قناته في "يوتيوب"، مباشرةً بعد إعلان الرئيس ترامب رفع العقوبات عن سورية، وتغزّله بالرئيس السوري "الشاب والقوي والجذّاب".
لا شيء يحدث بالمصادفة في عالم السياسة، ولا قرارات تتخذها دول القرار من دون تنسيق في ما بينها، حتى لو لم يكن هذا علنياً، إذ فعلاً ثمّة منظّمات عابرة للدول تعمل في خدمة الترتيبات العسكرية والسياسية والاقتصادية لدول القرار الكبيرة. وهي منظّمات تحظى بتمويل كبير، ولها خطوط متشابكة في مناطق التوتّر السياسي والأمني منزوعة السيادة. و"بالتيمور" قد تكون إحداها. وبالمناسبة، فإن حديث فورد لا يدين الشرع، بل هو برأي كاتبة هذه السطور يديننا نحن، شعوباً تبدو عاجزةً عن التعلّم من تجارب تاريخية ما زالت نتائجها حاضرةً، يدين عجزنا عن فهم أن سياسات بلادنا تدار من الخارج، وأننا الوحيدون القادرون على تغيير هذا المصير.