حين تتحوّل العقوبات والمساعدات حروباً جديدة
(كمال بلاطة)
يُدخِل التوقّفُ المفاجئُ للمساعدات الأميركية، 90 يوماً، المنظماتِ غير الحكومية والوكالات الأممية في حالة من الفوضى، سيّما أن هذا القرار يهدّد ملايين الأشخاص في العالم، وقد تكون تداعياته مع آليات عقوبات مدمّرة كارثيةً على الشعوب التي تدعمها المنظّمات الإنسانية، في الشرق الأوسط وأفريقيا، حيث لا يزال كثيرون يعانون الجوع، والتزايد السكّاني، والارتفاع التضخّمي القوي الناتج من الحروب، وما أحدثته جائحة كوفيد - 19، والانهيار المالي.
يأتي القرار في وقت تتعرّض فيه الولايات المتحدة، والدول الغربية، لانتقاداتٍ عديدة في علاقاتها التي تقوم على أشكال من الهيمنة المقنّعة أو المخفيّة، التي تمسّ الحدّ الأدنى من الشعور بالسيادة الوطنية، وتعزّز قيوداً على مناحي الحياة في البلدان الفقيرة أو التي في طريق النمو، ولعدم قيامها بما يكفي للمساعدة في ٳنهاء الحروب والنزاعات الأهلية، التي تستمرّ سنواتٍ في دولٍ تحتاج ٳلى دعم مالي، ومساعداتٍ من أجل إعادة الإعمار، ودوران عملية الاقتصاد، التي تعاني مشكلاتٍ عديدة.
العقوبات، مادّيةً ومعنويةً، يجب ألا ترتبط بتحقيق أجندات جيوسياسية تفسد عمليات الانتقال السلمي
العقوبات (أو حجب المساعدات)، مادّيةً ومعنويةً، يجب ألا ترتبط بتحقيق أجنداتٍ جيوسياسيةٍ تفسد عمليات الانتقال السلمي، ولا بأيّ مواقف تتعلّق بسياسة خارجية تصرف الانتباه عن الأولويات التنموية الأكثر إلحاحاً، والمفروض أنها آلية دعم ومحاولة لتحقيق السلم والأمن الدوليّين، ما يساعد على تعزيز الأمن القومي للدول المانحة. في هذا الٳطار، تفهم طبيعة العقوبات الأميركية، وما تثيره من أسئلةٍ في تعارضها مع القانون الٳنساني الدولي، الذي حدّدته الأمم المتحدة للقضاء على الجوع 2030، وبنقضها التعهّدات قبل 20 عاماً. وهي لا تأخذ بالاعتبار النمو السكّاني السريع بحدود 2.5 مليار نسمة، ولا حدوث ظاهرة الاحتباس الحراري المتطرّفة، التي تجعل من أهداف التنمية المستدامة صعبةً، إذ تُستخدَم أداةً قويةً لبثّ الرعب في الدول، وحرمانها من التعبير عن سيادتها وقراراتها الحرّة.
تتفاقم أشكال العنف والفقر والهجرة أو النزوح في دول جنوب غرب آسيا وشرقها، وٳلى حدود ارتكاب الٳبادة الجماعية في السودان مرّة أخرى، بعد عقدَين، فيما تبقي ميانمار أكثر تعبيراً عن هشاشة الأوضاع، فتقدّر الأمم المتحدة عدد الذين يحتاجون مساعدات هذا العام في البلاد بنحو عشرين مليون شخص. أمّا دول مثل إثيويبا وكينيا وتنزانيا وأوغندا وموزمبيق فمحرومة من التمويل، ويُفوّض مصيرها ٳلى "التعاون الدولي". مع ذلك، هذا في حدّ ذاته غير كافٍ، ويتقلّب وفقاً للصعوبات المالية التي يواجهها المانحون أو خياراتهم الأيديولوجية، وموقف الٳدارة الأميركية لن يكون محايداً، ما يعني مزيداً من أعمال العنف والشغب، المناهضة لارتفاع تكاليف المعيشة. تسلّط هذه الأمور الضوء على حجم الحروب الأهلية المندلعة، ولا تفعل الدول الغربية كثيراً لٳنهائها، بل تفسد عملية قيام هياكلَ سياسيةٍ عقلانيةٍ وموثوقةٍ اجتماعياً، ولا تهدف ٳلى ٳنهاء القمع الوحشي. لقد استغرق الأمر عشرة أشهر حتى يعيّن الرئيس الأميركي السابق جو بايدن مبعوثاً خاصاً ٳلى السودان، وفشلت الجهود لٳجراء محادثات لوقف ٳطلاق النار، وقبل فرض عقوبات على القادة المتقاتلين وعلى شركاتهم المملوكة في الخارج، التي تزوّدهم بالأسلحة والمال. في أفغانستان، مستقبل الأوضاع، حتى حصول المرأة الأفغانية على الرعاية الصحية وإنعاش الأطفال والتعليم، هو أكثر من مُجرَّد مستقبل قاتم، وما عادت ليبيا، مع تفكّك الفصائل، ترسل رسائل مطمئنة.
في سورية، الخارجة من أتون الحرب الأهلية، يتدفّق المبعوثون الغربيون ٳلى دمشق للاحتفال بسقوط الأسد، ويصرّحون أثناء مغادرتهم على أنه من السابق لأوانه تخفيف العقوبات عن الاقتصاد السوري. مع ذلك، تبدو العواصم الغربية والعربية منفتحةً على رفع العقوبات، ويسعى الاتحاد الأوروبي ٳلى تخفيفها، مع الاحتفاظ بوسيلة ضغطٍ في حال لم تلتزم القيادة السورية الجديدة بحقوق حماية التعدّدية السياسية، فلم تتمكّن تلك الجماعات بعد من الحصول على مكانٍ لها في مرحلة ما بعد سقوط الأسد. الدول العربية المؤثّرة ترغب في رفع العقوبات الغربية، التي كان من المفترض أن تعاقب نظام الأسد، ولكنّها أدّت إلى إفقار المجتمع السوري. ومستقبل العقوبات والمساعدات في غموض، ٳذ يُنتظَر موقف الٳدارة الأميركية الجديدة، التي أصدرت عدة إعفاءات محدودة من العقوبات. تغيير بسيط كان محلّ ترحيب، ترخيصاً للشركات بالتعامل مع الحكومة السورية الجديدة، وتزويد البلاد بالكهرباء والوقود، ولا يزيل العقوبات، ويسمح لقطر وتركيا بٳرسال محطّات طاقة عائمة (من المنتظر أن تولّد 800 ميغاواط). وأجرت دول الخليج (قطر) محادثات لتمويل زيادة في أجور القطاع العام بنسبة 400%، وهو وعد مبكّر، بداية جيّدة للتعافي من الحرب الأهلية، وبتأثيرات فورية لفتح الباب أمام المناطق السورية لتبدأ العمل، ولكيانات كانت في حالة تدهور، في بلدٍ مزّقته الحرب، وقُطِعت عنه الاستثمارات الأجنبية.
تتمثل الأولوية الفورية في تأمين الخبز والماء والكهرباء والوقود بشكل كافٍ، لشعبٍ دُفع إلى حافَة الفقر، ما استدعى إنشاء لجنة لدراسة الوضع الاقتصادي والبنية التحتية في سورية، تركّز في جهود الخصخصة، بما في ذلك مصانع النفط والقطن والأثاث. "لا نريد أن نعيش على المساعدات الإنسانية، ولا نريد من الدول أن تمنحنا الأموال كما لو أنها ترمي استثماراتها في البحر" (أسعد الشيباني). ولا تزال أميركا وأوروبا تعتقد أن بعض القيود يجب أن تظلّ قائمة، وتستخدم العقوبات وسيلةً للضغط من أجل تشكيل حكومة شاملة في سورية، مع أن رفعها لن يؤدّي ٳلى فقدان هذا النفوذ، ومن الممكن دائماً ٳعادة فرضها، وكثيراً ما كان الأسد يعيّن النساء والأقلّيات في حكومته، لكنّه قتل شعبه بالغاز الكيماوي، وببراميل الموت.
سيشكّل رفع العقوبات حدثاً يغذّي الآمال في مناقشة التطلّعات المختلفة لٳعادة بناء سورية
يترك الغرب القرارات المهمة في سورية للرئيس دونالد ترامب، وسيحتاج الأمر وقتاً للحصول على تأثيره الإيجابي، ولن يكون مفيداً حين ترفع واشنطن العقوبات التي اتخذنها ٳدارة بايدن ضدّ المستوطنين اليهود المتورّطين بارتكاب أعمال قتل وأعمال عنف ضدّ الفلسطينيين، أو حين يستخدم ترامب المساعدات الخارجية لٳجبار مصر والأردن على قبول اللاجئين الفلسطينيين، فالدولتان تتلقّيان مليارات الدولارات الأميركية سنوياً. ومن الممكن أن يبدأ الاتحاد الأوروبي بتفكيك العقوبات المفروضة على عدد من القطاعات الأساسية في سورية، البنوك وشركة الطيران الوطنية، لكن رفع العقوبات سيكون محفوفاً بالمخاطر السياسية التي تترافق مع تجاذب القوى العالمية بشأن كيفية دعم الانتقال السياسي مع تزايد الانقسامات داخل مجلس الأمن، والجميع يضغط على القيادة الجديدة لتحقيق مصالحه، ممّا قد يعوق استقرار العملية الانتقالية.
سيشكّل رفع العقوبات حدثاً يغذّي الآمال في مناقشة التطلّعات المختلفة لٳعادة بناء سورية، وإنهاء عقود من العزلة، والأضرار التي لحقت بالبلاد ومواردها المالية بسبب النظام السابق، الذي أدار اقتصاداً اشتراكياً مغلقاً، وشمل ذلك اكتشاف ديون تبلغ 30 مليار دولار لحلفاء الأسد السابقين.
من المنتظر أن يتيح رفع العقوبات ٳطعام الناس، والإبقاء عليها يثير تحفّظاتٍ بشأن ملاءمتها جزءاً كبيراً من العوالم، التي تحاول أن تتحرّر منها. وينبغي للحكومات في المنطقة أن تجعل من مسألة رفعها أولويةً، وقد تحوّلت حروباً أخرى، وليس لتحرير الشعوب المتضرّرة ٳلى ما لا نهاية.