حين تتجاوزك الأحداث

حين تتجاوزك الأحداث

12 يونيو 2021
+ الخط -

يحصل أنك، في لحظة ما، في حياتك تتحوّل إلى قِبلة الأنظار، وإلى شخصٍ يُتّكل عليه في المحيط الضيّق أقله. في البدء، تشعر بقيمة هذه اللحظة وتُثمّنها، وتسعى إلى حمايتها من أي نكسة. ثم تحاول توسيع المحيط، معتمداً على المصداقية التي اكتسبتها في المراحل الأولى. حينها، تصل إلى مرحلة مفصلية، يمتزج فيها الطموح الطبيعي بالطمع والأنانية والتفرّد. يُصبح مشوارك أكثر عشوائيةً وعدائيةً، وتتساقط المبادئ التي ارتكزت عليها في الأساس. تُضحي فجأة شخصاً آخر. لا أحد من محيطك الضيّق يعرفك، لقد صرتَ عكس ما كنت عليه. بدورك، لا تهتمّ لكلامهم. بالنسبة إليك، صارت هذه البيئة من الماضي، والمستقبل مختلف، وأنت قادر على رسمه كما تشاء. تَظهر التطورات على شخصيتك. تشعر بأنك من طبقة الآلهة، وأن الآخرين مجرّد بعّوض حولك. تظنّ نفسك أنك الأفهم والأكثر حكمةً والأذكى والعبقري وصانع القرار ودينامو الأحداث. شعارك يتمحور حول "الأنا" الخاصة بك. تخلق حدّاً فاصلاً بينك وبين من تعتبرهم أدنى منك. لم تعد تتقبّل النقد، ولا تقبل غير ما يُترجم رغباتك. لا أحد يملك رأياً سواك، ولا رأي صحيح سوى رأيك. لم تعد تقبل أن تُسأل، وإن سُئلت تتهرّب من الإجابة، سواء بالقمع أو باستخدامك موقعك الذي وصلت إليه. رسمياً، صرت ضيفاً جديداً في نادي "جنون العظمة".

في هذه الحمأة والتقلبات، تنسى أن الحياة دورة، والدورة ليست مساراً ينتهي وفق ما نخطط له، مهما سعينا. الدورة تشابك تامّ في الزمن والأحداث والشخصيات، وفي الأفعال وردود الفعل عليها. يُمكنك النجاة بحكمة أو بالمصادفة من أي حدثٍ طارئ، مرّات عدة، لكنك ستقع، في إحدى المرات، وسيكون سقوطك عظيماً. غالباً ما يُستخدم مصطلح "الصعود إلى القمة" للدلالة على تقّدم شخص أو حزبٍ أو فريق رياضي أو بلدٍ، لكن نادراً ما يُنبّه أحدهم من مرحلة ما بعد الوصول إلى القمة. وهي النقطة التي تنساها الغالبية الساحقة من الساعين إلى "الأمجاد". كثر يظنون أن "القمة" هي النهاية والمبتغى، من دون التفكير لحظةً بأنها مجرد محطة مفصلية، ستؤول إلى سقوطك في حال وصلت بصورة غير طبيعية.

ستقف على القمة، لا شكّ في ذلك. وربما لن تلقي نظرة إلى خلفك، فلو فعلت، ستجد جيوشاً جرّارة من الأعداء الذين صنعتهم في أثناء صعودك. من كان يخشاك كسر خوفه، ومن كان يظنّ أنك تسعى من أجل رخائه كفرد في مجتمع سيشعر بالخيانة، ومن كان يعتقد أنك ستأخذه معك إلى القمة وتركته في أسفلها سينقلب عليك. في هذه اللحظات، تكون الأحداث قد تجاوزتك. لم تعد صاحب المبادرة، بل بتّ في موقع الدفاع والصدّ. يقوى دفاعك ويضعف بحسب ما زرعته في أثناء صعودك إلى القمة. هنا، يا صديقي، أصبح سقوطك مسألة وقتٍ ليس إلا. لن ينفعك لا ماضٍ ولا مستقبل. الحاضر هو الذي سيحدّد مصيرك ومسارك. تظنّ أن الرفاق سيلتفّون حولك، لكنهم عملياً سيتخلون عنك في أول لحظةٍ تنطلق فيها رصاصة من فوهة بندقية خائبة.

هنا مأزق الشخصيات السياسية اللبنانية الكثيرة. تنظرون إليهم عبر شاشات التلفزة، وتسمعون أقوالهم وتقرأونها، فتجدون وكأنهم في عالم آخر. يقترحون حلولاً وكأنهم إيلون ماسك في سعيه إلى استعمار المريخ. يتحدثون وكأن الأزمة خلاف على سعر كيلوغرام بندورة في قرية نائية في جبال لبنان. يجولون في مواكبهم بعيون فارغة، ينظرون إلى المواطنين لرؤية ما يُمكن أن يشبع "الإيغو" الخاص بهم، فلا ينتبه أي مواطنٍ لهم، لأنه مشغولٌ بالبحث عن دواء أو علبة حليب لأطفاله أو كيفية تدبير تنقلّه. هذه اللحظة الأصعب في تاريخ الجمهورية اللبنانية لن تنتهي كما انتهت مسارات ومآلات سابقة، بل ستُفضي إلى حقبةٍ جديدة، سيسقط معها كثيرون ممّن يقفون على قمةٍ أشبه برمال متحرّكة.

6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".