حينما نشمّ الفرح غرباء في حديقة

03 ابريل 2025

(عمر سنادة)

+ الخط -

وحدها المسلسلات هي التي تطبخ الفرح أو تخبزه كأرغفة وتبيعه للناس في بيوتها، فرح كأنه الفرح، وناس بعمائم كأنها العمائم، وضحكات كأنها الضحكات، ونكات مرّة كأنها النكات، وعجائز كأنهن العجائز بأسنان مصفوفة ومرصّعة وحواجب منتوفة وقد استبدلوها بأخرى مصنوعة من دون أن تكون شائبة، أو علّ الممثّلة هي التي طمحت لذلك من وراء ظهر المخرج؛ من أين أتت هذه الجلابيب المهندمة كلّها مع العمائم المليحة، حتى في عزّ العراك أو الثأر أو رفع الأسلحة من وراء جبل، وكأنّ الثياب لا تبلى والعمائم مكوية دائماً، ولا أثر لسيجارة وراء أذن خادم للعمدة ولا مطواة قرن غزال في جيب قديم من الدمور البالي.
كلّ الأشياء في الاستديو جميلة وتبرق، إلا الضحكات هي المرّة وبلا طعم، فمتى يأتي العيد كي يفرح الأطفال في تلك الحديقة التي تشبه حدائق الغرباء في المهجر، رغم أننا نعيش في بلادنا، والكلاب تتجوّل أيضاً في حرّية أمام المقاهي المغلقة بنصف خجل وتتناسل بكثرة، والقطط هي الأخرى تزداد عدداً، والقطط دائماً تكون جميلةً وتدخُل على استحياء، وهي تدبّ خطواتها الأولى إلى رخام المقاهي.
واضحٌ أن المسلسلات تنوب عنّا مقدّماً في صناعة الفرحة على شفاهنا، كي لا نهرب بلا فرح ولا ندفع الجمارك أو الضرائب نظير ذلك للوطن، المسلسلات ضميرنا في مرآة العدل أمام عيون العالم الخارجي، والبحر أيضاً مثل المسلسلات نظيفٌ دائماً وحمّامات السباحة والمدن الجديدة والقرى الجديدة والخادمات الجديدات من وراء الأطفال في حديقة الأسماك، وقد حملن البالونات والكلاب الصغيرة غالية الثمن، والممثّلون أيضاً مع الممثّلاث في العيد أو في إجازته في استمتاع بالمياه، سواء في الداخل أو الخارج بعدما تشاغلوا قليلاً مع الضرائب في أساس الأجور وأرباع عشور الزكاة أو الحج أو العمرة السريعة.
يقف الأطفال بفرح في المسلسلات مع الإعلانات باهظة التكاليف والشوكولاتة وجوائز محمد رمضان، التي تعمّ البلاد، وتصل إلى المعوزين في ربوع البلاد، جوائز تشتري لهم الأبقار والجواميس والبغال أيضاً، لمن هم في المناطق الجبلية الصعبة من دون أن يكلّفوا أنفسهم حساب الحزن أو العمل.
المسلسلات هي شبّاكنا للأمل، حتى وإن كانت حياتنا أمام دكاكين "علفة الطيور" غير ذلك، حتى وإن تعاركت سيّدة مع ضرّتها الصغيرة من أجل زجاجة زيت أو كيلو سكّر، المسلسلات هي بوابتنا للأمل، وشراء الأسلحة ونحت الكلمات التي لا نستطيع أن ننطق بها، ولكن تنطقها نيابة عنا أمام البحر ليلى علوي، أو ياسمين عبد العزير، أو ياسمين صبري، أو أيّ ياسمين أخرى تعمل الشاي بجوار فندق هو في الأصل استديو، كاستديو نحاس، أو مدينة الإنتاج الإعلامي التي تعمل كخلية نحل بالمخرجين من شهور مع موظّفي الضرائب العقارية، وضرائب لوحات الدكاكين حتى وإن كانت تبيع الليمون أو السمك أو الكمّون.
هذه متعةٌ لا نظير لها في أيّ بلد أوروبي أو أميركا، أن تعيش الحياة والحرّية والموضة وطلاء الأظافر للنساء، بالضبط كما تفعل غادة عبد الرازق في رموشها وفساتينها أو وهي تشخط في الجزّار فتتراخى السكين في يده، ويكتب لها شيك العقد العرفي على بياض، وبعد شهرين تصير مالكةً "للحارة بأبقارها وعجولها وجواميسها" عن بكرة أبيها، وتبيع بنفسها العجول رخيصة السعر للقرى والكفور من داخل سيارتها الجديدة في الاستديو.
الفرح تماماً يشبه رائحة العطر في الاستديو، تشمّه من بعيد مع المشغولات الذهبية ثقيلة الوزن في حقائب الخادمات وأغلبها "فالصو" بالطبع، والخادمة تعرف ذلك وتحكيه لحفيداتها في أيام العيد على سبيل الضحك، هي الوحيدة في الريف مع أحفادها التي تعرف أن الذهب الذي كان في حقيبتها كان مطلياً، وأن المخرج كان يضحك معها، وهي جالسة في مؤخّرة الاستديو، ويسألها عن بناتها فتظهر أسنانها الذهب الخالص وهي تضحك.
نحن هنا في حديقة ما مزروعة بالكافور والسنط، وفي جوانبها العيال مع الكلاب، حديقة لا تشبه حديقة الاستديو وبائع طعمية لا يشبه أبداً "أحمد العوضي"، ونبوت لا يشبه أبداً نبوت "حكيم باشا"، أو قفاطينه المكوية.
نحن هنا نشبه أنفسنا تماماً بلا زيادة أو نقص، وهناك أناسٌ تشبه المسلسل غيرنا تماماً، وحبيبات تشبه الممثلة مريم فخر الدين تماماً، وهي تقطف الورد من بستان القصر وترسله إلى حبيبها في الجبهة، وقد لوّثت أوراق وردة بدمعتَين من غير "غلسرين"، المسلسل في بلد ما لا نعرف أين يقع، ونحن في بلد آخر.