حينما تقرأ إبراهيم أصلان
كتابة متقشّفة من الزوائد والمحسّنات، ومن كلّ غباء كتابي مألوف، ولكنّها مليئة بالمعاني الغامضة والنباهة الشعبية التي تضمر في داخلها أكثر من ذلك الصراخ الأبله. كتابة تقول ما في نفس خطوطها الغامضة بإيماءاتٍ أقرب إلى الإشارات، لا كبلاغة مكرّرة ومألوفة في أضابير الأسلوب وتركيب الجمل. كتابة تشبه صحبة رجلٍ كبير السن في قطار المناشي، رجل قليل الكلام ينطق كلّ آنٍ وهو في القطار عن تلك الدنيا القليلة التي هناك، والتي يجري وراءها الناس سعياً وراء المكاسب، من دون أن ينتبه الناس لحزن تلك الغمامتَين هناك، أو ذلك المطر الذي يخرّ من خشب ذلك الشباك القديم في إمبابة، أو بين السرايات.
كتابة تحكي اللقاء الأليف بين عجوزَين فرّا من قسوة الأيّام، وتذكرا فجأةً سنوات الخدمة لهما في السكّة الحديد، أو في حرس الحدود، أو في أرشيف وظيفة صغيرة بعدما أحيلا على المعاش، وبهتت الذكريات كثيراً، ولكنّها أليفة جدّاً في الفم، وخاصّة حينما يضحك الفم بضحكات أسيانة وغامضة بلا صخب.
كتابة تحكي العجز الأليف للذكريات من دون أن تخدش حياء اللقاء، أو تستجلب الدموع على الماضي، كتابة تسكب رحيق الذكريات في كوبَين من الشاي، وبخفة فقط تتلاقى العيون من فوق كرسيَّين في مقهى بالقرب من الطاولة أو الدومينو، رعشة العين فقط، أو دلالة تلك الابتسامة وكأنّها تلعب هي الأخرى مع الخصمَين بلا كلام.
كتابة تضمر أكثر ممّا تظهر، كتابة تقول الباطن أكثر ممّا تتعلّق بهول الأحداث أو طلاوة المعنى وضخامته، كتابة إبراهيم أصلان هي صحبة مع عين ذكية على الأشياء النادرة والأليفة معاً، كطائر مالك الحزين بالقرب من النهر، أو رجل كبير السن يدخل الحمّام، ويتذكّر ذلك الرجل الذي حكى معه أثناء صعوده السلّم، ولا يملك إلا أن يقول: "يخرب عقلك يا فلان"، ثمّ يطفئ عود الكبريت في تلك المياه القليلة في بقعة من المياه الواقفة في تجويف إسمنت الحمّام البلدي.
كتابة إبراهيم أصلان لا تحدّد موضوعها أبداً بطريقة الرسم البياني، ولا بطرق البحث عن العقدة والحلّ، ولكنّها كتابة تسعى ببطء إلى ما يشبه موضوعها، رغم أن موضوعها يظلّ دائماً غامضاً وهشاً، كتابة هدفها السعي إليها من دون ادّعاء امتلاكها، وكأنّها رحلة حائر متردّد وقد زهد في المعاني المطروحة، كتابة تحاول أن تحكي روائح المكان بصعوبة. حينما قرأت القصّة الأولى لإبراهيم أصلان، في مجلّة الدوحة إبان رئاسة رجاء النقّاش تحريرها، لمسني فرحٌ ما من دون أن أعرف السبب، بسبب تلك الكتابة القليلة جدّاً، ولأنها أيضاً تقول ذلك الشيء الذي فيك وكان يحيّرك (وما زال)، تتأمل حروف اسم صاحب القصّة، فتتأكّد أن في الاسم وحروفه عذوبة أيضاً، وأنك ترى الحزن الدفين أيضاً، لا في صورة الكاتب، ولكن أيضاً في حروف الاسم، الاسم أيضاً هدية صاحبه، وكأنّ الاسم هو الآخر ينادي على صاحبه ويهتم بمكانته ما بين أبناء مهنته، سواء أكانت المهنة الكتابة، أم البناء، أو النقش على الحجر، أو عمل الأبواب الخشبية والشبابيك؛ إبراهيم أصلان نقش على حجر الكتابة ما كان يريده، بتوجّس شخص شبه زاهد في النتائج، وزاهد أيضاً في حمل المعاني الثقيلة فوق كتفَي الكتابة.
كتابة نحيلة، ولكنّها تبرق بخفّة للقلب الذي يرى ويتأمّل ويتحسّس طريقه ما بين السطور القليلة، كتابة مصرية حتى النخاع من دون الدخول في عراك مع الماضي، أو أحد، وتنجو بنفسها فقط من أهوال ما راكمته الكتب من شروحات وإطنابات وتفاسير وعنعنات وكم الورق المسفوح تحت الأقلام الشبعانة بالأحبار، كتابة كأنّها الضوء الخافت في مقهى فقير بحيٍّ شعبيٍّ قديمٍ، لا يعلن عراقته، ولكن يقول ألفته في الزوايا، وفي أفواه صحبة ناسه البسطاء من دون ادّعاء عظمة أو وطنية عالية الصوت، كتابة تقول الخفوت ولا تقول الصخب.
إبراهيم أصلان لم يغيّر مواضيعه أبداً، في سنواته الأخيرة فقط، تخفّف من توجّساته في الكتابة والمحو والتردّد، ولكنّه حافظ على نفس بابه الموارب لأيّ معنىً مقصودٍ يتم التهليل له، أو الهندسة له أو اللعب بمشاعر القارئ أو تراكم كمّ الكتب أو الطبعات.
حافظ إبراهيم أصلان على موضوعاته وألفته بأماكنه وطرائق حكيه من دون أن يندفع وراء "الموضات"، أو التراكم الكمّي المقيت، كتب كزاهد من دون أن يكون كذلك، ومشى في طريقه للنهاية من دون أن يدخل في سباق مع أحد سوى نفسه، وكانت تلك عبقرية إبراهيم دائماً، قال ما في نفسه من دون أن يضخّ في كتبه من عرق أيّ كاتب قرأه، أو تأثّر به، أو أحبّه.
كان إبراهيم يمشي في طريق إبراهيم فقط، ذلك الطريق العمران بالألفة والصحبة وندرة الغايات الأخرى التي تزيد الكتابة شحوماً وتثقلها بالمعاني؛ صحيح أن إبراهيم أصلان لم يأت أبداً من فراغ الكتابة، بل من ذلك الثراء الأدبي لكتابات همنغواي، وكافكا، والسينما، ومن ظلال تلك المعاني الهشّة كلّها، التي اهتمّت بالظلال على حساب الموضوع الكبير، وببساطة الحكي وخفّته على حساب تلك الأثقال التي تعلّق بالكتابة.
إبراهيم قرأ، ورأى ما يريده لنفسه وروحه من دون الجري وراء قارئ، أو جائزة، أو دكتاتور ما، أو مؤتمر صاخب يعجّ بالمعجبين والمعجبات والكاميرات والوعود البرّاقة بالترجمة وإعادة نشر الطبعات فوق رفوف المكتبات في الشرق والغرب، فأعطته الكتابة من روحها تلك البساطة الآسرة.