حيرة الإخوان المسلمين بين السِّلم والعنف
أنصار الإخوان المسلمين والجماعات السلفية في ميدان التحرير في القاهرة (13/4/2012/فرانس برس)
مع تتابع الأحداث في غزّة وسورية، تقع حركة الإخوان المسلمين المصرية في اختبار المُفاضلة ما بين العودة إلى الإصلاحية أو الانتقال من الثورية إلى الجهادية. ومع التغيّر المستمر لمُجريات الصراع الإقليمي والحرب، تُعدّ استجابة الجماعة مؤشّراً مُهماً على الميول والتوجّهات الحالية والمستقبلية، ومن ثم، يساعد تحليل تصوّراتها فترة ما بعد وصول الجهاديين إلى دمشق في الاقتراب من ملامح مواقفها تجاه الوضع في مصر. وهنا، تبدو أهمية مراجعة مواقف فِرَق الإخوان في سياقاتها التنظيمية وفي ضوء تأثير الظاهرة الجهادية في اختياراتها.
على مدى الفترة السابقة، انشغلت الجماعة بتوظيف "طوفان الأقصى" في تنشيط معارضتها الدولة بعد تآكل مطلب استعادة "الشرعية" والتعويض عن توقّف فاعليتها لما يقرب من عقد ونصف عقد، شهدت خلاله حالة تشتّت داخلي ولمجموعات المعارضين. في أكتوبر/ تشرين الأوّل 2023، شكّلت المرجعية الجهادية مُنطلق التصرّفات في تصنيف الحكومات، وضعت فيه النظام المصري تحت فئة الحكومات العميلة والمُنخرطة في الحِلف الصهيوني الأميركي، لتتبارى منشورات مجموعات الإخوان في تثبيت أولوية التعارك لأجل تحرير القاهرة وإسقاط الانقلاب واعتباره واجباً لازماً لتحرير القدس.
وفي تطوّر لاحق، كانت إزاحة المجموعات الجهادية بشّار الأسد في 8 ديسمبر/ كانون الأوّل 2024 فرصة للاقتراب أكثر من تلقي جماعات الإخوان التجربة الجهادية وتداعيات وصولها إلى السلطة للمرّة الثانية، بعد أفغانستان، وخصوصاً ما يظهر في اتجاهات الخطاب السياسي. وبمراجعة بيانات فِرَق الإخوان المسلمين في مرحلة طوفان الأقصى، يمكن ملاحظة استقرار صورة النظام المصري عدواً دائماً، لم تُزاحمه إسرائيل أو الولايات المتحدة في أولوية العداء، وهي وضعية يتهافت أمامها حديث الإخوان عن عداء للغرب.
انشغلت الجماعة بتوظيف "طوفان الأقصى" في تنشيط معارضتها الدولة بعد تآكل مطلب استعادة "الشرعية" والتعويض عن توقّف فاعليتها لما يقرب من عقد ونصف عقد
في المسار الأوّل، انصبّ اهتمام فريق "إخوان أون لاين"، 8 ديسمبر/ كانون الأوّل 2024، بسقوط نظام الأسد من وجهة الخلاص من الاستبداد الموالي لقوى الاستكبار لتسهيل السطو على الموارد، ما يشكّل لحظة فارقة في تاريخ سورية والمنطقة. وتمني نجاح المرحلة الانتقالية في استعادة قدرات الدولة تحت مظلّة وطنية لا تستبعد المكوّنات المختلفة. لم يسعَ هذا الفريق لاستجلاب تجربة سورية إلى مصر، حيث ركّز على وضع خصومته مع الدولة في سياق الخلاف على قضايا الجماعة ونقض سياسة الدولة تجاه فلسطين.
على المسار الثاني، كان انفعال فريق "إخوان سايت" (التنظيم الدولي) مبكّراً، فمع بدء تحرّك المسلّحين من إدلب باتجاه "حلب"، ربطت تعليقاته، 30 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، ما بين الاستقرار وحماية الإرادة الشعبية ومنع أشكال التدخل الدولي، ومع هروب بشار الأسد في 8 ديسمبر/ كانون الأوّل 2024، ركّز على اتخاذ سياسة لدعم انتصار الإرادة الشعبية واستثمار نهاية الطغيان في بدء مرحلة بناء الدولة الموحّدة وجلب الدعم الدولي. وكان لافتاً، تقديمه أحداث سورية محاكاة لنهاية الاستبداد المأساوية، يمكن الوقاية منها بإطلاق سراح المحبوسين والمحكومين، وفتح المجال العام من دون تمييز أو إقصاء بين أبناء الوطن الواحد كأرضية للمصالحة الشاملة.
وفي المسار الثالث، يتخذ الخطاب الإخواني (المكتب العام، 8 ديسمبر/ كانون الأوّل 2024) من الثورة السورية طريقاً لاشتعال الثورة المصرية وكسر قيود الاستبداد واقتلاع الطاغية، حيث تعطي دروساً في العزيمة بعد سنوات الإحباط. ويستند في ذلك إلى ميراثٍ، يراه مشتركاً، من مساندة الإسلاميين المصريين، يونيو/ حزيران 2013، ثورة السوريين، ما يؤسّس أرضية ملائمة لنقل التجربة ما بين البلدين، تحت مظلّة الجهاد العالمي وفق مقولات منظّمات القاعدة، كما وردت في بيان 16 مارس/ آذار الماضي حول استهداف مصالح الولايات المتحدة وإسرائيل.
نظرت كلّ فِرَق الجماعة إلى الحدث السوري على أنه مؤشر لإحياء الأمل والدعوة إلى تكراره في مصر
بصورةٍ أو أخرى، نظرت كلّ فِرَق الجماعة إلى الحدث السوري على أنه مؤشر لإحياء الأمل والدعوة إلى تكراره في مصر. ورغم تعدّد وجهات النظر، انساقت الجماعة نحو تطوير الصراع مع الدولة على حساب التفكير في مساحات التعايش والوجود السلمي داخل النظام السياسي، لتهيمن قناعات الانتزاع على مفردات الخطاب والسلوك السياسي. ومع تكرار وصف الحُكم المصري بالانقلابي، القاتل، الاستبدادي والخائن، يتشكّل وعي المضاهاة بنظام بشّار الأسد، لتشكل إزالة "نظام يوليو" هدفاً مشتركاً، يقوم في معظمه على تدمير النظام أو محاسبة كلّ أركانه، وفي أحسن الأحوال، يتبنّى فريق "إخوان سايت" هامشاً تفاوضياً متذبذباً ما بين الهدوء والثأر.
على أيّة حال، توضّح خريطة مواقف الإخوان المسلمين من أحداث سورية مرونة التَقلّب بين الأفكار والاتجاهات الأيديولوجية. من هذه الوجهة، يكتسب الامتزاج مع المرجعية الجهادية أهميته، ليس من محدودية قدرات مجموعة التغيير، ولكن من وجهة أنها تفتح النقاش بشأن إمكانيّة التحوّل الجماعي للتنظيم نحو تبني العنف العالمي تحت تأثير المغناطيس السوري، وخصوصاً مع توفر الانفلات التنظيمي وضمور النموذج التصحيحي والمراجعة.
تُلهب هذه الأجواء خيال الإسلاميين بإمكانية التموضع على أنقاض النظام البائدة، ما يدعو إلى الاقتراب من التحوّلات داخل حركة الإخوان المسلمين. خلال العقود الأخيرة، زاحمت مركزية سيد قطب مكانة حسن البنا، ليكون وعي المُكوّنات الحالية بالنسخة الأخيرة من "في ظلال القرآن" عفياً على ما سبقها من مقولات، لتمثّل الساحة المشتركة ما بين "الإخوان" والمنظّمات الجهادية. شكّل التلاحم في حرب أفغانستان نقطة الانطلاق في التداخل الواسع، وهو ما تُرجم في صعود الاتجاهات الراديكالية في الانتخابات الداخلية في 2009. مهّدت هذه التحوّلات لتبلور قناعات الجيل وفق أطروحات سيد قطب عن آلية التغيير السياسي والنظر للمجتمع المُسلم والعالم.
وبشكل عام، يقدّم اعتبار السياسة من العقيدة المُكنة الشرعية لتصنيف نُظم الحُكم من وجهي الإيمان والكُفر. خلال حقبتي أنور السادات وحسني مبارك، غطّت رغبة "الإخوان" في التعايش وإعادة البناء على إثارة مسائل السياسة من الوجهة الشرعية، لدرجة قبولها بالديمقراطية، غير أنه مع وجودها طرفاً في السياسات الرسمية، ظهرت توجّهات التصنيف حسب العقيدة، حيث يؤسّس سُلَّم الاختيارات حسب المناخ السياسي القائم، وهنا، تتعلّق فروق الخطاب السياسي بحالة الانقسام أكثر منها تنوّعاً موضوعياً، حيث تدور كلّها على مرجعية حسن البنا وسيد قطب والولاء للمرشد العام الحالي.
ساهم الاحتكاك في الميدان السوري في انتشار الشِدة والتطرّف فيما بين الإسلاميين المصريين
وبنتيجة مُعاكسة، يزيد عجز الإسلاميين عن تقديم إجابات لأزمات غزّة، مع الحروب المحتملة، من حيرة الجماعة. فمنذ سقوط نظام "البعث"، وقعت ما بين تمجيد التغيّر العنيف والعودة الخجولة إلى الحديث عن الإصلاح. خلال ما يقرب من عامين، ساد الخطاب تحوّلاً مشهوداً نحو تفضيل الصراع الدائم على مراجعة مواقفها، ليكون توظيف الحملات الدعائية في توطيد المفاصلة مع الحُكم المصري. وتحت دعوى حصار المقاومة، انخرطت فروعُ الجماعة في دول أخرى في مهاجمة السياسة المصرية، ليكون حشد الإخوان، باعتباره تنظيماً عابر للحدود، على أولوية وضع الدولة في مرمى استهداف المتغيّرات الدولية، من دون مناقشة إمكانية الحشد على حدود إسرائيل مع لبنان وسورية، والمساهمة في تنشيط جبهات أخرى ضمن محاولات إسناد غزّة وفي حل بديل من الاحتجاج أمام السفارات في عواصم مختلفة.
ومع تسارع الأحداث، حاول كلّ فريق تثبيت نفسه واجهة للجماعة، ليُضفي استمرار الخلاف التنظيمي صعوبة في نفي الانتماء إلى الجماعة، ليكون كلّ أقسامها محلّ تمثيل ومسؤولية عن التصرّفات والتصريحات، بغضّ النظر عن عدده ورأسه التمثيلي. وبينما يستقر واقع المجموعتين الرئيسيتين على فشل تسوية الخلاف بينهما، تسعى "المكتب العام"، 13 ديسمبر/ كانون الأوّل 2024، لحشد شباب الجماعة لخدمة التحرّك الثوري بمشاركة هجينة خليط من "السلفية الجهادية"، وهي محاولات لتثبيت التوجّه العنيف ضمن تركيبة الجماعة.
وفي هذه الظروف، لا يرقى الانقسام إلى أن يكون خلافاً موضوعياً، فليس هناك خطوط فاصلة أو حاكمة في النظر إلى الظواهر، إلا من رفض لشخصيات الداعين إلى حمل السلاح في المواجهة مع الحكومة المصرية، وهو رفض يضعفه الموقف المشترك بأولوية إسقاط الحكومة لأجل مساندة المقاومة، وهي صيغة أقرب للتحيّز لخيارات المقاومة الإسلامية على حساب الدولة.
يوطّد نقص الكفاءة المعرفية وسيولة التنظيم القابلية لانتشار عقيدة العنف فيما بين المجموعات المُنتمية إلى الجماعة
تُساعد هذه الخلفية في تفسير اتجاهات جماعة الإخوان المسلمين منذ نهايات 2014 عندما تبنّى قِسم من "اللجنة الإدارية العليا"، مدعومة بقرار من مجلس الشورى، المواجهة العنيفة مع الدولة. انتشرت هذه الأفكار مع انشطار 2015، لتقع الجماعة في اضطراب داخلي، نتج منه انقسام جديد في 2021. خلال هذه المرحلة، شاعت قناعات المفاصلة مع الدولة وصولاً إلى تقويض مؤسّساتها. خلال عام 2015، تشكّلت الملامح الفكرية لهذا التوجّه انطلاقاً من ثلاث مسوّدات، منها بيانا الكنانة 1 و 2 ، بالإضافة إلى مناقشات داخلية في مؤتمر "علماء أهل السنة لمواجهة الاستبداد وسفك الدماء" في 8 – 9 أغسطس/ آب في السنة نفسها، جرى تجنّب نشرها في البيان الختامي، حيث تشاركت أفكار وجوب القصاص من موظفي الدولة المدنيين والعسكريين المشاركين في فضّ اعتصام رابعة والأحداث اللاحقة، وذلك تحت مظلّة الـجهاد الشرعي برعاية "هيئة علماء الثورة" وردت أفكاره في كتيّب "فقه المقاومة الشعبية للانقلاب" (2016) ليقدّم تأسيساً شرعياً للخروج/ التمرّد المسلّح ضدّ الدولة.
وكان لافتاً تزامن ظهور هذه الأفكار مع تقرير ورقة "الإسلام دين الجهاد" (أنس خطاب في 2015) لأحكام التكفير والردة على مرجعية الإخوان المسلمين. ترصد صفحة الإهداء مصدرية "عبد الله عزام" و"سيد قطب" وسلسلة مُنظري منظمات القاعدة، وقد ساهم الاحتكاك في الميدان السوري في انتشار الشِدة والتطرّف فيما بين الإسلاميين المصريين، وخصوصاً ما يتعلّق بلوم جهاديي سورية التزام "أهل الإسلام" (الإخوان المسلمين) السلمية في مواجهة الحُكام المرتدين، لتتشكّل حالة جدلية في السنوات اللاحقة.
على أيّة حال، يوطّد نقص الكفاءة المعرفية وسيولة التنظيم القابلية لانتشارعقيدة العنف فيما بين المجموعات المُنتمية إلى الجماعة، وهنا، يساعد اتساع سُلّم الأيديولوجيا بين السِّلم والسلاح على ارتحال التقليديين نحو الموقف الجهادي، تحت حملات الإغراء بنجاح سلسلة منظمات القاعدة في إطاحة نظام حزب البعث السوري، لتتشكّل روافع الحركة ضمن سياقات الجهاد العالمي في الصراع على فراغات الشرق الأوسط.