حياةُ العاديين الكاذبة

حياةُ العاديين الكاذبة

06 مايو 2022

(محمد عبلة)

+ الخط -

حدثت لحظة التّغيير في حياة الفرد العادي جدّا "ترومان"، في الفيلم التُّحفة (The Truman Show) للمخرج بيتر وير (Peter Weir) عند اكتشافه المتأخّر الخلل الطفيف الذي شاب عالمه المثالي على غفلة. هذا الخلل كان موجوداً دائماً، وينتظر من يكتشفه، لولا أنّ ترومان السّعيد بسذاجة، مدفوعاً بالقناعة التي لُقّمت له قطرةً قطرة، فضّل أن يعيش داخل العلبة، طالما تسير أموره على ما يُرام داخلها. بشكلٍ تدريجي فكّر ترومان في أنّ رتابة الأمور تخفي أسراراً بدأت بحكم نظامِ الأشياء تنكشف طبقة ًطبقةً مثل علبة هدايا، ليصل إلى حقيقة أن هناك مُخرِجاً يتحكّم في عالمه الذي صنعه له ببرّه وبحره وسمائه. وأن هذا العالم ليس حقيقياً حين اكتشف زيفه، فلا يمكن أن تكون الحياة بهذا الضّيق، رغم الراحة الظاهرية.

صحيحٌ أنّ الحب كان المحفّز الأول لترومان، كما هو في أفلام كثيرة، لكن الطريق أيضاً مليئة بما يستحق الرّحلة، حين يكسر السّيناريو التقليدي للحياة، ويتوقف عن السير خلف التوجّه الذي يُمليه المحيط، وما من شيءٍ مخيف أكثر من سجن "العادي". كما أن ما من شيء مليء بالحياة أكثر من التغيير والمغامرة. من جهة أخرى، بعد موجة الاحتفاء التي راجت في العالم بالأشياء وقدرة الإنسان العادي على إحداث المفاجآت والتحدّيات، وتحقيق ذاته، بدءاً من حفرة الصّفر العميقة إلى معانقة الطموح العالي؛ صار العالم مبرمَجاً على رفض الشخص العادي، بشكل لا يقلّ تطرّفاً عن ترويجه، فبعد الشخصية الرّمزية اللافتة لـ"فوريست غامب" التي قدّمها توم هانكس بأداء خرافي، صارت فكرة البطل الخارق النّموذج الجديد للإنسان المعاصر. الرجل الخارق الذي يروّج له صُنّاعه تنحصر صفاته في أنه رجل أبيض، على قدر من الجمال والتناسق الجسدي. إذ قليلا ما يتم الاعتماد على شخصيات أنثوية خارقة، باستثناء شخصيات "ووندر وومان وكات وومان". فيما يغيب الرجل الأسود عن جيش الأبطال الخارقين.

وواصل صناع "الفيكشن" توليد الأبطال مثل الفراخ أو الأرانب، لمحاصرة الفرد العادي الذي يأخذ هنا معنىً معاكساً لمعنى الخارق، وليس المفهوم السابق له، في دوّامة عارمة من العجز، لأنّ لا أحد يتوقّع منه شيئاً ما لم يكن خارق القوى، أو ثريّاً يمكنه تغيير العالم بما يمتلكه من مال. وهل من دليل أقوى من إيلون ماسك؟ تروج إستوديوهات هوليوود ومارفل، وربيبتهما اللئيمة "نتفلكس"، فكرة البطل الخارق باعتباره مخلّص البشرية العاجزة والعادية جدّا. فماذا يفعل المرء أمام شخص يطير، أو يكسر الجدران ويختفي، و.. و..؟ لهذا تبقى التكنولوجيا السبيل الوحيد الذي قد يمنح الأفراد العاديين فرصة التحوّل إلى أبطال خارقين، كما فعل "أيرون مان".

كنا غافلين عن البرمجة الذاتية للقيم والتصورات حول الحياة والإنسان منذ الطفولة، مع أول بدايات الرسوم المتحرّكة التي قدّمتها "ديزني"، لكن الأجيال الجديدة أكثر استسلاما بشكل كبير لتأثير الصناعات الترفيهية للقيم الإنسانية، فكلما جاءت شقيقتي المقيمة في أوروبا بابنة جديدة إلى المغرب، كنت أفاجأ بالقناعة التامة لدى كلّ واحدة منهنّ بأنها أميرة، وكلّ ما تريده عندما تكبر أن تصبح مثل أميرات "ديزني". كانت الأفلام الكثيفة التي تروي قصص الأميرات بالغات الجمال والمغامرات، والأمراء الوسيمين الذين ينقذونهن، المرجعية الثقافية الوحيدة التي تعرّضن لتأثيرها مثل بقية الأطفال، الذين صاروا يقلّدون حركات شخصيات الرسوم وتصرفاتهم. لهذا كبر جيلٌ كامل من الفتيات وحلمهن أن يكنّ أميرات، لا يعملن ولا يتعبن من أجل شيء. ويمر وقت طويل قبل أن يقبلن العيش في الواقع، مكسورات الأجنحة والأحلام. وبدل السّعي إلى خرق العادي، أصبح على الانسان الحالي الدّفاع عن عاديته التي ليست عجزا أو جبنا، فالعادي إنسانٌ فحسب، لكنّه استطاع، بإنسانيته، أن يبني العالم، وأحياناً تدميره. إنّه ببساطة "إنسانٌ مفرط في إنسانيته". وسائلُ ازدهاره أو انحداره تتمثّل في المعيار الأخلاقي والإنساني، لا المعيار الخارق المستحيل، الذي لا يقلّ خداعاً عن العالم الماورائي (حكايات الأشباح والعفاريت) وما قد يتخيّله شخص يظنّ أن هذا العالم يمكن أن يكون رهن إشارته بكبسة زرّ أو لمس مصباحٍ سحري.

596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج