حماس والخيارات القاسية والمعقّدة
تواجه حركة حماس ضغوطاً شديدة من إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وحكومة بنيامين نتنياهو، لمقايضة المرحلة الثانية من وقف إطلاق النار بإخراج الحركة من قطاع غزّة، ووضعها أمام خيارين رئيسين: الهدنة ووقف آلة الحرب الإسرائيلية مقابل الموافقة على إنهاء الحركة عسكرياً وسياسياً في القطاع أو العودة إلى حرب الإبادة، بعدما عجزت آلة الدمار بكل ما أحدثته عن القضاء على الحركة، التي حافظت بكفاءة مدهشةٍ على وجودها وجزء كبير من قوتها.
لقد أظهرت حماس بمجرّد ما بدأت الهدنة العسكرية أنّها لا تزال تمتلك ماكينة عسكرية وأمنية وإعلامية ورمزية، والأهم أن منظومة القيادة والسيطرة لديها ما زالت فاعلة بقوة كبيرة، وكأنّها لم تتعرّض لكل ما واجهته نحو 14 شهراً من تدمير وقتل بآلة عسكرية ضخمة مدعومة بأحدث تكنولوجيا عسكرية على وجه الأرض. لذلك، ما لم يستطع الاحتلال تحقيقه بهذا التدمير، يسعى له من خلال الهدنة والمفاوضات والضغوط السياسية.
من هنا، تبدو معادلة الحركة في المرحلة المقبلة في غاية التعقيد والصعوبة؛ فقادتها يدركون أنّ العودة إلى حكم غزّة مسألة غير واقعية اليوم، فلن يكون هنالك إعمار دون التخلّي عن السلاح وتبديد فكرة المقاومة ذاتها، وبالتالي، إنهاء القوة العسكرية ومعها السياسية كاملة، فضلاً عن أنّ الشروط الإقليمية التي حملت الحركة خلال العقود الماضية تقوضت هي الأخرى مع تفكّك النفوذ الإيراني وخروج حزب الله من المعادلة، وانهيار مصادر التسليح، وحتى التمويل، مع الموقف الأميركي والإقليمي الواضح بإنهاء قدرات الحركة.
على الجهة المقابلة، تسعى الحركة لتحسين شروط المرحلة المقبلة، ولا تريد التخلي عن السلاح وعن القوة العسكرية، حتى لو قبلت ضمنياً بفكرة عدم القدرة على البقاء في الحكم. لكن ما تحاول الحركة القيام به حالياً، عبر التفاوض السياسي مع الوسطاء والمجتمع الدولي، هو البقاء في القطاع والحفاظ على قدر من القوة العسكرية التي تمكنها من البقاء لاعباً رئيسياً في المشهد من ناحية، وعدم القبول بإنهاء خيار المقاومة استراتيجياً من ناحية أخرى.
في الأثناء، جاء طرح إدارة الرئيس ترامب تهجير الغزّيين ليعزّز من قناعة الحركة بأنّ التخلي اليوم عن بنيتها السياسية والعسكرية والأمنية يعني الاستسلام والخروج من المعادلة، وهو سيناريو لا يتطابق حتى مع ما حدث مع منظمة التحرير الفلسطينية بعد خروجها من لبنان، إذ كانت هنالك سياقات إقليمية وحواضن للعمل المسلّح من الخارج مختلفة، أما اليوم فالوضع مختلف جذرياً، على الصعيدين، العربي والدولي، مع وجود يمين أميركي متحالف بقوة مع اليمين الإسرائيلي، وغياب أي رافعة عربية يمكن أن تتكئ عليها المقاومة لاحقاً أو مستقبلاً.
مثل هذا الوضع الاستثنائي ضمن سقف زمني محدود جداً، وضغوط سياسية داخلية وإقليمية ودولية، يضع خيارات ومساحة المناورة السياسية للحركة في حالة الأزمة الجوهرية، وربما هذا وذاك يفسّران إصرار الحركة على ألا تعني الهدنة العسكرية الخروج الكامل من قطاع غزّة، سواء عسكرياً أو سياسياً وإدارياً، ومحاولة الوصول إلى تفاهمات مع الأطراف الإقليمية ومع القوى الفلسطينية وحركة فتح (السلطة الفلسطينية) إلى صيغة لا تعني إنهاء الحركة بالكلية في القطاع.
تضغط هذه الحسابات على جميع الأطراف في التحضير لنقاشات المرحلتين، الثانية والثالثة، وفي تقرير مستقبل القطاع، فـ"سلاح المقاومة" وإمكاناتها ومستقبل حركة حماس، ذلك كلّه موضوع على الطاولة في المرحلة المقبلة. وإذا كانت الحكومات العربية ترى أنّ حماية غزّة وشعبها إنسانياً وإعادة الإعمار وإنقاذ غزّة من التطهير العرقي والتهجير تعني بالضرورة المقايضة بسلاح حركة حماس، فإنّ ما يطرحه ترامب اليوم لمستقبل القطاع وتعزيز الضغط على الأردن ومصر لاستقبال اللاجئين يجعل المقايضة غير منطقية، لأنّ ذلك، باختصار، هو تسليم القطاع والأرض بلا سكان وتحقيق أهداف نتنياهو وفريقه بلا أي مقابل!
في الخلاصة، ثمّة أزمةٌ كبيرةٌ في التعامل مع هذا الواقع وبهذا الوقت المحدود، ما يدفع إلى أهمية بناء مقاربة فلسطينية - عربية مشتركة، وأن تكون "حماس" طرفاً في هذه الصيغة، طالما أنّ المطروح من الطرف الآخر خسارة كل شيء!