حليب وتعذيب

حليب وتعذيب

06 مارس 2022
+ الخط -

تحضرني طرفة المرأة التي غمزت شحاذاً مهترئ الجسد والثياب ذات يوم، ودعته، بكثير من الغنج، للصعود إلى شقتها، فصعد المسكين يسبقُه لعابه غير مصدّق "المعجزة" التي فتحت له أبوابها في ذلك اليوم، غير أنّه اكتشف عندما دخل الشقة أنّه مطلوبٌ ليكون عبرةً ليس إلّا، فقد فوجئ بالمرأة تشير إليه وهي تتوعد طفلها، قائلة: "أترى مصير من لا يشرب الحليب؟".

أما حضور الطرفة فيرتبط بوثائق أجنبية جديدة تكشف جانباً من فضائح أنظمتنا التي أصبحت مُضغة في أفواه العالم، ومنها ما يسمّى "التعذيب بالوكالة" وملخصه أنّ الولايات المتحدة لجأت إلى "استئجار" أجهزة مخابرات عربية للاستفادة من "خبراتها" بغية انتزاع اعترافاتٍ من معتقلين لدى "سي آي إيه" عبر إرسال هؤلاء إلى أوكار الرعب العربية مباشرة، وترك الحرية لها في استخدام ما تراه ملائماً من أساليب التعذيب التي تشتهر بها هذه الدوائر خلال التحقيقات، ومن ثم تزويد وكالة المخابرات المركزية الأميركية بـ"الاعترافات".

بالطبع، لم يكن خيار الاستئجار لعجز في إمكانات المخابرات الأميركية، بل للحفاظ على "إنسانيتها" أولًا، ولأنّ أميركا لم تشأ خدش صورتها بوصفها تعارض مثل هذه الأساليب الوحشية في انتزاع الاعترافات، وكذا لأنّ قوانينها لا تسمح بهذه الممارسات أصلاً على أرضها، ولن تعترف محاكمها بأيّ دليلٍ تخالطه شبهة التعذيب، حتى ولو كان صحيحاً، بمعنى أنّ أميركا مزدوجة المعايير، عندما ترفض ممارسة التعذيب على أراضيها مباشرة، وتسمح به، خارجها .. وهذه نكتة أخرى أشدّ طرافةً من الأولى.

أما حاصل جمع الطرفتين؛ فيفضي إلى مزيجٍ فريدٍ من نوعه، يبدأ بنا، نحن العرب، أولًا؛ إذ علينا أن نعترف بأنّ طغاتنا وأجهزتنا الأمنية نجحوا في استقطاب طراز جديد من "الاستثمار" لم يكن معروفًا، يسمّى "الاستثمار في التعذيب" باعتبار أنّ طغاتنا "أساتذة" في هذا الضّرب من "الضّرب". فلماذا، إذاً، يثقبون آذاننا صباح مساء بالشكوى من شحّ الاستثمار الأجنبي في بلادنا، وتردّد رؤوس الأموال العالمية في المجازفة بإقامة المشاريع الاقتصادية في عالمنا؟

ربما كان الأجدى، فعلاً، أن يعيد طغاتنا النظر في هذه المسألة، ويُستحسن البناء على "خبراتهم" المتراكمة التي كشفتها تلك الوثائق، ولا تثريب عليهم إن تفتّقت قرائحهم عن تطويرٍ وتحديثٍ جديدين في وسائل التعذيب لجذب "المستثمرين" الأجانب، لا سيما وأنهم أخفقوا في سائر أشكال الاستثمار الذي حاولوه في بلادهم، ولم يتقنوا غير أفانين الترهيب والتعذيب وكتم الأنفاس. ثمّ إن أميركا تعاملت مع هذا الاستثمار على قاعدة "الغاية تبرّر الوسيلة"، ولم يكن يعنيها غير النتائج التي تتوخّاها، بدليل أن أحد المعتقلين قال صراحة، بعد خوضه هذه التجربة الجبريّة، في أحد المعتقلات العربية: لقد اعترفت لهم بما أرادوه.

غير أنّه، وفي حمأة سيلان لعاب طغاتنا وهم يهرعون لتلبية "الإغراء" الأميركي الذي يعدّ "أمراً" واجب التطبيق بالنسبة لهم، نسي هؤلاء الجلادون أنّهم محض "شحاذين" و"متسوّلين" مخصّصين للعبرة واستنباط الدروس ليس إلّا. أما الدرس الأول فموجّه إلى الشعوب الغربية نفسها، وقوامه: "عاينوا بأنفسكم مصائر الدول التي لا تعترف بحقوق الإنسان وحرياته، كيف يغدو حكامها وأنظمة حكمها بل وهياكلها السياسية والإدارية كلها، قائمة على هدر حقوق الإنسان وانتزاع كرامته قبل انتزاع اعترافاته، وهم ليسوا أزيد من متسوّلين وشحّاذين على أبوابنا، يأتمرون بأمرنا، ويستجدون المساعدات حتّى ولو كان ثمنها تأجير أجهزتهم ورموزهم السيادية من أجهزة أمنية وعسكرية مقابل حفنة دولارات".

في مقابل ذلك، على "الأم" التي تتواطأ على كرامة الإنسان خارج أراضيها، ألّا تغضب عندما يدفع ابن أصيل لها ضريبة "الثقة الزائدة" بأجهزة الأمن المستأجرة، تماماً كما حدث مع الشاب الإيطالي جوليو ريجيني، الذي تعرّض لجرعة تعذيب "زائدة" في أقبية المخابرات المصرية، تمخّضت عن انتزاع روحه وتشويه جسده، فجنّ جنون المسؤولين والشعب الإيطاليين، وتحسّروا على الفقيد الذي "عذّب وقُتل كأنّه مواطن مصريّ" على حدّ تعبير أمه، وعندها لن يشرب ابنها الحليب أبدًا حتى لو استدعت له شحّاذي العرب برمّتهم.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.