حكومة لبنان بين صندوق النقد و"صندوق الفرجة"

حكومة لبنان بين صندوق النقد و"صندوق الفرجة"

15 سبتمبر 2021
+ الخط -

"صندوق الفرجة".. توصيفٌ ينطبق على الحكومة اللبنانية التي أبصرت النور، برئاسة نجيب ميقاتي، بعد فراغ دام أكثر من سنة منذ استقالة حكومة حسان دياب، على إثر تفجير مرفأ بيروت في 4 أغسطس/ آب 2020 ووقوع مئات الضحايا وتدمير أحياء بكاملها. حكومة ولادتها قيصرية تحتوي على كل شيء، بما فيها الأمور الأكثر غرابة، وتصلح لكل شيء باستثناء قدرتها على الإصلاح وإعادة استنهاض البلد وإعطاء أمل للناس. وقبل أن يستقيل وعد دياب اللبنانيين بتحقيق شفاف، وكشف الفاعلين خلال خمسة أيام، مدعوما أيضا بالتزام رئيس الجمهورية، ميشال عون، الذي أعلن يومها أنه استلم تقريرا قبل أسبوعين من حصول التفجير، ولكنه لم يتحرّك، لأن ذلك "لا يدخل ضمن صلاحياتي"، وما زال اللبنانيون ينتظرون معرفة من تسبّب بقتل أبنائهم وإخوتهم وأحبائهم. ومع استقالة دياب، دخل لبنان في دوامة البحث عن رئيس حكومةٍ، يلبّي هواجس أهل السلطة، وسعيهم إلى إفشال مهمة المحقق العدلي في كشف خيوط الجريمة والمسؤولين عن إدخال مادة نيترات الأمونيوم إلى المرفأ ووجهة استعمالها. وفي الوقت نفسه، استكمال نهب مدّخرات اللبنانيين. وتدرّجت العملية من تكليف شخصيةٍ من خارج الطقم السياسي، مصطفى أديب، لتأليف حكومةٍ من مستقلين وذوي اختصاص، تحت ضغط الشارع و"انتفاضة 17 أكتوبر"، وبدفعٍ من المبادرة التي أطلقها الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بهدف امتصاص غضب اللبنانيين، ولكن أركان السلطة كانوا له بالمرصاد، فاضطر بعد ثلاثة أسابيع إلى الاعتذار. ثم عادت الكرّة إلى سعد الحريري الذي اعتقد أنه راجع على حصان أبيض، معلنا تمسّكه بالمبادرة الفرنسية بتشكيل حكومة مستقلين غير منتمين إلى القوى السياسية، وراح يغرق في أفخاخ مستنقع التأليف الذي نصبه رئيس الجمهورية بإصراره على أن تكون له حصة تفوق ثلث عدد الوزراء، لكي يتسنّى له التحكّم بقرارات الحكومة التي ستكون، على الأرجح، آخر حكومة في ظل رئاسته التي تنتهي في 31 أكتوبر/ تشرين الاول 2022. واستمرّ الحريري يدور في حلقة مفرغة تسعة أشهر، يعد تشكيلة بأسماء الوزراء والحقائب، ثم يضطر إلى تعديلها، مرة تلو المرة، نزولا عند إصرار عون، إلى أن اضطر للاستسلام، معلنا اعتذاره، في منتصف يوليو/ تموزالماضي. وانتقلت عندها المهمة إلى ميقاتي الذي سبق له أن ترأس حكومتين في السنوات الماضية، فراح يلعب اللعبة ذاتها شهرا ونصف الشهر، وإذ فجأة كان له ما أراد.

تمكّن نجيب ميقاتي من تجاوز أكثر من فخٍّ نصب له، متسلحا بنفسه الطويل، وبأن الأسماء المقترحة يفترض أن تكون غير حزبية

هل تمّ هذا لميقاتي لأنه أشطر من الحريري، أم لأنه ساوم في مكانٍ ما؟ الجواب هو الاثنان معا. فاذا استعرضنا أسماء الوزراء الجدد وتوزيع الحقائب، يمكن استنتاج أن ميقاتي تمكّن من تجاوز أكثر من فخٍّ نصب له، متسلّحا بنفسه الطويل، وبأن الأسماء المقترحة يفترض أن تكون غير حزبية. أما السلاح الأهم فهو الموقف الذي لوّح به رؤساء الحكومات السابقون بأنه في حال فشل ميقاتي، ستمتنع أي شخصية سنّية عن القبول بمهمة تشكيل الحكومة. إذ كان عون "يستشير" صهره ورئيس التيار العوني، جبران باسيل، في كل اسم يُطرح. وفي اليوم التالي، يفاجئ ميقاتي بتغيير رأيه. ويرتبط هذا السلوك بالتكتيك الذي اتبعه باسيل، بعدم تسمية ميقاتي لترؤس الحكومة، وبامتناعه عن منح الثقة لها، ما يجعله طليق اليدين يتوزع الأدوار مع عون. غير أن شطارة ميقاتي لم تسعفه في تجاوز كل العقبات التي كان يضعها رئيسٌ مصممٌّ على الاحتفاظ بقدرته على السيطرة على قرار الحكومة، كي يتمكّن من التأثير على نتائج الانتخابات النيابية، المفترض حصولها في الربيع المقبل. كما أن ولع ميقاتي بالعودة إلى السلطة، وهو رجل أعمال ملياردير يجمع بين السياسة والمال، دفعه، في النهاية، إلى تقديم تنازلاتٍ مكّنت رئيس الجمهورية (والصهر باسيل) من الحصول على حصة الثلث زائد واحد، والذي يعرف بـ"الثلث المعطل" (9 وزراء من أصل 24) في الحكومة، ولو أن ميقاتي ينكر ذلك. أما عون فلم يجد حرجا في المسارعة إلى التأكيد فور إعلان ولادة الحكومة الجديدة وصدور مراسيمها أن "ما نريد أن نأخذه أخذناه"، إن كان بالنسبة للحقائب الأساسية المسمّاة سيادية (الدفاع والخارجية والعدل)، أو بالنسبة لعدد الوزراء. وفي المقابل، بقي باسيل محتفظا بورقة ابتزاز ميقاتي، رافضا إعطاءه وعدا مسبقا بمنح الثقة للحكومة، وإنما فقط بعد طرح برنامجها في جلسة مناقشة البيان الوزاري والتصويت على الثقة. وهنا المفارقة الغريبة العجيبة في أن رئيس الجمهورية يأخذ حصته الوازنة من الوزراء الذين هم عمليا من اختيار الصهر باسيل، فيما تيار الرئيس يرفض منح الحكومة الثقة.

أما كيف أمكن فجأة الخروج من دوامة الفراغ الحكومي وبشكل مفاجئ، فهذا يعود أساسا إلى تفاهم فرنسي - إيراني حول مجموعة أمور تشمل العراق (عقد توتال الفرنسية) وسورية (خطوط الكهرباء والغاز) والحكومة في لبنان التي يبقى عرّابها "حزب الله"!، ولكن المهزلة الكبرى التي تجسّدها هذه الحكومة ما يجعل منها "صندوق فرجة"، فهي في نوعية الوزراء وكفاءتهم، وفي كيفية اختيار من أصبحوا اليوم وزراء الجمهورية. التحاصص طبعا كان سيد الموقف، ما جعل شعار وزراء مستقلين في خبر كان، واعتمد "على عينك يا تاجر" مبدأ توزع المغانم والحصص: هذا الاسم لهذه الحقيبة وذاك لتلك الحقيبة والثالث مشترك أنا اسميه وأنت توافق عليه .. وهكذا دواليك.

انتزع رئيس الجمهورية هدفاً دائماً عمل عليه خلال محاولتي تأليف الحكومة اللتين سبقتا ميقاتي، "الثلث المعطل"

ومن أهم عجائب حكومة "صندوق الفرجة" وغرائبها أن وزيرا للشؤون الاجتماعية (عوني الانتماء)، على سبيل المثال، يشنّ حربا على حفاضات الأطفال، مستشهدا بالصين التي حسب زعمه لا يستعمل مواطنوها الحفاضات، ويدعو الناس إلى العودة إلى القماطات، وتكرار استعمالها بعد غسلها وكيّها، فيما اللبنانيون يفتقدون الكهرباء والمازوت والماء! ويدعو أيضا هذا الوزير الهارب من المستقبل، وهو طبيب أسنان، إلى العودة إلى استعمال المحارم من القماش بدل المحارم الورقية، ويدعوهم كذلك إلى الشرب من الحنفية بدل زجاجات المياه المعدنية، وغيرها من الوصفات "الإصلاحية"! وبطبيعة الحال، تحوّل هذا الوزير إلى عنوان للسخرية والتعليقات اللاذعة في وسائل الإعلام وعلى مواقع التواصل الاجتماعي. وزير آخر أسندت إليه حقيبة الإعلام، وهو صحافي معروف، راح يعلن ولاءه لبشار الأسد، واصفا إياه بـ"رجل العام ومنقذ سورية من المؤامرة الكونية التي تتعرّض لها"، و"بطل قومي وسقوطه كان سيؤدّي إلى سقوط سورية ولبنان والعراق وأيضا دول الخليج...". وكذلك رأيه بحسن نصرالله الذي يعتبره زعيما عربيا من دون منازع. وأكثر من ذلك، طالب، في أول تصريح له ردّا على منتقديه، بأن لا تستضيف وسائل الإعلام "أولئك الصحافيين والمعلقين الذين يتطاولون ويعملون على تيئيس الناس"! نمودج ثالث هو وزير الاقتصاد الجديد الذي كان يعمل في الولايات المتحدة، وغرّد على "تويتر"، قبل فترة قصيرة من تعيينه، مشبّها مجلس النواب، المفترض أن يمنحه الثقة، بـ"سوق الأحد" وأشبه بـ"الكرخانة". وبعد صدور مراسم تشكيل الحكومة، سارع إلى محو التغريدة، وهو أيضا عوني الهوى. والجدير بالذكر أن وزير "الحفاضات"، كما بات يطلق عليه، سيكون في عداد اللجنة الوزارية التي ستشكلها الحكومة للتقاوض مع صندوق النقد الدولي من أجل وضع خطة إصلاحية مالية لإنقاذ لبنان.

لا تخفي هذه النماذج من الوزراء التي تضفي طابعا فولكلوريا على "حكومة الإنقاذ" أمرا أساسيا، يعود بالوضع إلى نقطة الصفر، أن رئيس الجمهورية انتزع، كما هو، هدفا دائما عمل عليه خلال محاولتي التأليف التي سبقت ميقاتي، ما يعرف بـ"الثلث المعطّل" داخل الحكومة، والذي يمكّنه من فرض ما يريد، أو على الأقل شل عمل الحكومة، وتحويلها إلى مجرّد أداة لتصريف الأعمال والتحضير للانتخابات. أما انهيار البلد وغرق الناس في الجوع والعوز...

5231ACF6-F862-4372-9158-B1655EE52A60
سعد كيوان

صحافي وكاتب لبناني، عمل في عدة صحف لبنانية وعربية وأجنبية.