Skip to main content
حكاية مارادونا
محمد أحمد بنّيس
لوحة جدارية لمارادونا في شارع في روما تصوره تشي جيفارا روما (27/11/2020/Getty)

يحفل تاريخ كرة القدم بأسماء لاعبين أفذاذ باتوا جزءا من الذاكرة الكروية الكونية، غير أن قليلين منهم نجحوا في الاشتباك بالمخيلة الجماعية لشعوبهم، والتحوّلِ إلى رموزٍ وأيقوناتٍ شعبيةٍ بعد أن تعدّى تأثيرهم رقعة الملاعب. وما كان ذلك ليتحقق من دون قدر من الدراما الذي طبع مسار هذا اللاعب أو ذاك. ودييغو أرْماندو مارادونا، الذي رحل الأسبوع الماضي عن 60 عاما، كان من بين هؤلاء، فقد نجح في أن يحوز مكانة خاصة في الوجدان الشعبي الأرجنتيني. ولم يتأتّ له ذلك، فقط، بسبب منجزه الكروي، بقدر ما تأتّى، أيضا، بسبب ما شهدته حياته الخاصة من صخبٍ غذّاه فائضُ النجومية الذي تحوّل، بمرور السنين، إلى عبء نفسي وصحي ثقيل رافقه حتى وفاته.

ولد مارادونا في بلدة لانوس بضواحي بوينوس أيريس. عاش طفولةً قاسية، وعانى من الفقر المُدقع، لكن ذلك لم يمنعه من أن يشقّ طريق النجومية بسرعة لافتة. ولم تكن كرة القدم بالنسبة له مجرّد لعبة. كانت، أيضا، وسيلةً لإثبات الذات وتأكيد حضورها شخصيا واجتماعيا. فتحوّل إلى رمزٍ ومثالٍ للفئات الفقيرة والمحرومة، ليس فقط في الأرجنتين، بل في معظم بلدان أميركا اللاتينية. وربما بسبب ذلك قوبلت أخطاؤه وعثراته بقدرٍ غير يسيرٍ من التسامح والتفهّم.

شكل مونديال 1978، الذي نُظم في الأرجنتين، فرصةً بالنسبة لمارادونا لإثبات موهبته، لكن صدمته كانت كبيرة بعد استبعاد المدرب ثيسار مينوتي له بسبب صغر سنه. وربما كان استبعاده من حسن حظه، فقد ظلت شبهةُ عدم أحقية فوز منتخب بلاده بالكأس تلاحق لاعبيه بسبب ما شاع، آنذاك، بشأن ''المستحيل'' الذي فعلته الطغمةُ العسكرية الحاكمة لتُبيّض سجلها الحقوقي الأسود، من خلال فوزٍ غير مستحق. وشاءت الأقدار أن يتصادف الصعود الكروي لمارادونا مع التحوّل الديمقراطي الذي شهدته الأرجنتين (1983). فكان تعلق الأرجنتينيين به تعلقا بالأمل الذي رافق نهاية الحكم العسكري وبداية التحوّل نحو الديمقراطية. 

لم يمنح مارادونا بلاده كأس العالم (1986) فقط، بل أعاد إليها ما يشبه الاعتبار الرمزي بفوز منتخب بلاده، في مباراة تاريخية، على إنكلترا التي هزمت الأرجنتين في حرب المالوين (1982). ولم يعد مارادونا، بعد 1986، مجرّد لاعبٍ موهوبٍ منح بلاده كأسا عالمية مستحقة، بل بات بطلا شعبيا. وقد كان محقّا عالمُ الاجتماع الأرجنتيني الراحل، إلِسْيـو فيرون، حين اعتبر أن مارادونا نجح في أن يتحوّل إلى مستودع للخيال الاجتماعي، فأصبح مساره الكروي عنوانا لأرجنتين جديدةٍ أكثر إصرارا على القطع مع الاستبداد العسكري، والتطلع نحو المستقبل الذي يصنعه جيل جديد. وبذلك عكَسَ هذا المسارُ حاجةَ فقراء الأرجنتين للاعتقاد بأن إحلال العدل ما زال ممكنا في هذا العالم. وشكّل مارادونا، حسب فيرون، امتدادا لإيفيتا بيرون التي أحبها الأرجنتينيون بسبب انحيازها للفقراء والعمال. وهو الامتداد الذي يشعر به زائر بوينوس أيريس في الجداريات والمنحوتات والصور التي تحتفي بمارادونا، ليس فقط باعتباره لاعبا لم تجُد الملاعب بمثله، ولكن أيضا باعتباره عنوانا لمخيلةٍ شعبيةٍ ترى في كرة القدم وسيلة للإنجاز وإثبات الذات الفردية والجماعية.

لم تقتصر رمزية مارادونا على بلده، فخلال لعبه في نادي نابولي، أصبح رمزا للعصامية، وجزءا من الوجدان الشعبي للنادي والمدينة التي تنتمي للجنوب الإيطالي الفقير. وتستحضر الذاكرة الشعبية المحلية معاركَ إعلاميةً خاضها مارادونا ضد بعض مراكز النفوذ الكروي والرياضي في إيطاليا. ويرى بعض محبّيه أن سقوطه في فخ المخدّرات كان مؤامرة محكمة نصبتها له هذه المراكز، التي واجهها وكأنه يُمثل فقراءَ الجنوب المقصي من معادلة الثروة في إيطاليا، ويربطون ذلك بواقعة إقصاء الأرجنتين إيطاليا في نصف نهاية كأس العالم التي نظمت على أراضي هذه الأخيرة عام 1990، وهو الإقصاء الذي استغله خصومه للانتقام منه.

لم يكن مارادونا مجرّد لاعب في بلدٍ تُعدُّ فيه كرة القدم ''ديانة'' موازية، كان مبعث بهجة جيل بكامله في مختلف أنحاء العالم، ما يجعل أثره حكاية أرجنتينية جميلة، تُذكّر بحكايات كارلوس غارديل، وإيفيتا بيرون، وخوان مانويل فانْخْيـو وتشي غيفارا وغيرهم.