Skip to main content
حكايات في المحطّات
سما حسن
(كلود مونيه/ Getty)

يبدو أن عليك أن تسلّم بمقولة الكاتب والروائي المصري، بهاء طاهر، "الناس لا تبوح بأسرارها للأصدقاء، وإنما للغرباء في القطارات والمحطّات العابرة"، لأنك بمجرّد أن تضع نفسك على مقعد خشبي لتنتظر حافلتك، أو حتى طائرتك، فأنت تنطلق لتتحدّث، وأنت لا تدري السر في ذلك. وربما كنت تعتقد أن تلك اللحظات التي تتحدّث فيها في هذا المكان هي التي لن تتكرّر، أو أن الشخص الذي يجلس إلى جوارك قد استطاع أن يسحب منك الحديث، أو أنك قد سحبت منه حديثه رغماً عنه، وقد علقت بالفعل هذه المقولة أو الحقيقة في ذاكرتي؛ لأني تنقّلت بين محطّات كثيرة خلال ترحالي في إسطنبول لأول مرّة، ووجدت نفسي أتحدّث مع الغرباء، ويتحدّثون هم معي وإليّ بكل راحة ويسر، وكأننا نعرف بعضنا منذ زمن، فتلك الشقراء الأوروبية التي جلست إلى جواري، ذات يوم في انتظار وصول الحافلة العملاقة، ونظرت بطرف عينها إلى شابٍ كان يرافقها، ويقف على مقربةٍ منا متشاغلاً بهاتفه النقال، كانت تعتقد أنها قد أصيبت بفيروس كورونا؛ فهي لم تعد تشمّ رائحة امرأة أخرى عالقة بملابس حبيبها، ولكنها لم تخبره، لكي لا يفرّ منها، وقد ضحكت وهمست لها بالإنكليزية: هل سيهرُب خوفاً من العدوى، أو بسبب ضجره من عراكك الدائم معه بسبب خيانة مفترضة؟

وفي انتظار الحافلة التي تأخّرت كثيراً، كنت أسير نحو مقهى صغير؛ طلباً لكوب من الشاي التركي الذي أصبحتُ أعشق مذاقه، وربما جذبني بسبب طريقة إعداده المعقدة على خلاف طريقتنا السريعة في إعداد الشاي. وحين قدّم لي النادل الصغير كوب الشاي، مع كيسين صغيرين ممتلئين بالسكر، وقد لمحتُه بطرف عيني يتهامس متوسّلاً مع رجل يبدو من ملامحه أنه مدير المكان، فعاد إليّ ليتحدث باللغة العربية؛ مفترضاً أنني أفهمها بسبب الزي الذي أرتديه، وسألني بلطف: هل تريدين بعض الشطائر مع الشاي، وقبل أن أردّ كان يردف بصوت هامسٍ لا يكاد يُسمع: أنصحك، يا سيدتي، ألا تفعلي، فالشطائر هنا سيئة الطعم ومرتفعة الثمن، ثم عاد ليتظاهر أنه ينظّف الطاولة الصغيرة، وهمس لي: صاحب المقهى يستغل حاجتي للمال، فقد هاجرت مع عائلتي من سورية منذ سنوات، وأصبحت المعيل الوحيد لها بعد مرض أبي. وها أنا أدرس في الجامعة، وأعمل نادلاً وعامل نظافة ساعاتٍ طويلة وبأجر زهيد.

اختفى النادل من أمام ناظري، وتتبعت ذلك الرجل الذي يبدو عليه الجشع والقسوة بعينيّ من بعيد، ولمحت الشاب ينظف طاولةً لزبون آخر، ولكنه لم يكن يهمس له كما فعل معي، ولم أكن بحاجة للذكاء، لكي أعرف أنه لم يبح لي بمعاناةٍ مختصرةٍ، إلا لأنه قد توقع أنني أعيش معاناته وأستشعرها. وحين عاد بعد قليل ليحمل الكوب الفارغ، أخبرته عن جنسيتي، فدمعت عيناه، وتمتم بكلماتٍ لم أفهمها ولكنني توقعتها.

للمحطّات حكاياتٌ لا تعرف لماذا تبدأ مع الغرباء، وكأنك تفعل ذلك، لأنك على يقينٍ أن أحداً لن يبوح بسرّك، ولكنك بحاجةٍ لكي تتكلم. تعرف ثقل السر أو الألم الجاثم فوق صدرك، ولكن مغبّة البوح به لصديق أو قريب قد تكون فادحة، مثل الحسناء التي جلست إلى جواري، وربما لو باحت بسرّها لصديقةٍ لسوف تختطف رجلها منها بطريقةٍ أو بأخرى، فقد سمعنا حتى مللنا من خيانة الصديقات، فآثرت أن تصمت، حتى وقعت على غريبةٍ مثلي، تشاطرها مقعداً خشبياً في محطة عابرة، وكلها ثقة أنها لن تلتقي بي ثانية.

أما هذا النادل الصغير فقد كان يبدو عليه الألم والمعاناة. ومن الطبيعي ألا يبوح بذلك لزميلٍ قد يشي به عند صاحب العمل فيطرده، أو لصديقٍ قد ينقل بعض وجعه إلى أمه أو إلى شقيقه فيثقل عليهم أكثر. ولذلك آثر الصمت، وترك وجعه عندي، قبل أن ينفجر قلبه، والحقيقة أنني قد فعلت مراراً مثل الشقراء والنادل الصغير.