حقبة تنحية الوكلاء والحرب الاستباقية
قد ترقى النتائج غير المتوقّعة (بل ربما المقصودة) لعملية طوفان الأقصى إلى أن تكون درساً مهمّاً في التحليل السياسي، فحتى لو انتهت هذه الجولة من الصراع غداً، فقد قوّضت قديماً ووضعت أسسَ جديد. ويشكّل التهاوي السريع لنظام بشار الأسد أحد أمثلة هذا التغيير غير المقصود (وغير المُخطَّط) الذي ساهمت في إنضاجه مجريات ما بعد "الطوفان". وصحيح أن هذا التغيير مدفوع جزئياً بسياق دولي أوسع يشمل توجّهات أميركية لإعادة صياغة علاقتها بالحلفاء والأعداء معاً، لكنّه إقليمياً مدفوع أولاً بتداعيات "طوفان الأقصى".
والتغيير الأكبر والأكثر تأثيراً تحوّل إسرائيل من السعي إلى بناء شبكة تحالفات إقليمية والطموح إلى انتزاع اعتراف من أكبر عدد ممكن من الدول العربية، نحو استراتيجية جديدة عنوانها العريض "الحرب الاستباقية". المحلل الجيوسياسي البريطاني الباحث في المعهد الملكي البريطاني لدراسات الدفاع والأمن (تأسس 1831) إتش إيه. هيلير نشر أخيراًً تحليلاً مهمّاً عن فجوة بين مصر وإسرائيل تزداد اتساعاً، وفيه يحذّر من تفاقم التوتّر بينهما لأن إسرائيل لا تقدّر تصورات مصر الأمنية ومصالحها. وحالة العلاقات المصرية الإسرائيلية قد تكون الأسوأ منذ توقيع "كامب ديفيد". وبحسب التحليل المذكور، ينبغي الاكتراث بالعواقب على الأمن الإقليمي. ومنذ بداية حرب غزّة، تغيّرت أهداف إسرائيل، ودعا ساسة إسرائيليون الفلسطينيين إلى مغادرة غزّة إلى سيناء بشكل جماعي، وأصبحت دعوات طردهم سائدة بشكل متزايد. ولا يزال سوء فهم مصر تحديداً واسع الانتشار في إسرائيل، وهناك فجوة، ليس فقط بين إدارة ترامب والعالم العربي، بل بشكل أكثر تحديداً "بين تل أبيب والقاهرة". و"هناك اتجاه واضح في السياسة الإسرائيلية بدأ يعتبر مصر مشكلةً، وهو اتجاه مرتبط بتحوّل أوسع نطاقاً نحو اليمين في السياسة الإسرائيلية أخيراً. وأعرب وزير الأمن الإسرائيلي السابق يوفال شتاينتز عن قلقه من نمو نوع جديد من عقيدة الحرب الاستباقية في الفكر الأمني الإسرائيلي... واتجاه إسرائيلي ناشئ يسعى إلى تعزيز وجهة نظر أكثر عدائية تجاه مصر". وهناك افتقار إسرائيلي متزايد بشأن نظرة مصر على وجه الخصوص، ما قد يؤدّي إلى ديناميكية قد تزعزع الاستقرار الإقليمي. وفعلياً، تصاعد هذا الاتجاه ليشمل لبنان وسورية أيضاً، حيث يعتمد الحفاظ على أمن إسرائيل (جزئياً على الأقلّ) على الاستباق، وفي نطاق أوسع "هذه العقيدة الاستباقية الجديدة والعدوانية تؤثّر الآن حتى على خطاب إسرائيل بشأن تركيا".
أصبحت إسرائيل أقلّ اكتراثاً بتوسيع نطاق الاعتراف الرسمي العربي، وتوشك أن تستبدله (تماماً) بفرض الإذعان الخشن على الجميع
في الوقت نفسه، حملت رسائل مسرّبة من فضيحة "سيغنال" الأميركية معلومات عن مُخطَّط أميركي تناقشه مع حلفائها الإقليميين، يمثّل تغييراً جذرياً في منظومة الأمن في البحر الأحمر، عبر وجود عسكري أميركي في تيران وصنافير، والمطلب قد يؤدّي إلى تهميش مكانة مصر الإقليمية. ومع ثنائية "الحرب الاستباقية" (إسرائيلياً) و"تنحية الوكلاء" (أميركياً) نكون قد دخلنا في حقبة ملبّدة بغيوم داكنة.
إسرائيل، من ناحية، أصبحت أقلّ اكتراثاً بتوسيع نطاق الاعتراف الرسمي العربي، وتوشك أن تستبدله (تماماً) بفرض الإذعان الخشن على الجميع. وقد انطوى التغيير في سورية على تحدّيات كبيرة لإسرائيل، وفي مقدّمة التحدّيات عودة شبح لحظة تنحّي شاه إيران، وهو التفسير الأكثر منطقية لحديث إسرائيل الذي تصاعد فجأةً عن التسلّح المصري، فالخوف ليس سببه توجّهات مصر الحالية، بل احتمال أن تصبح هذه الترسانة الكبيرة المتطوّرة في يد معادية لإسرائيل. فالنظام الذي أسّسه الخميني ولد بمقدرات دولة مسلّحة تسليحاً غربياً جيّداً (من عهد الشاه) وهو السيناريو الذي يخشى الإسرائيليون تكراره في سورية أيضاً في حال أسّس الشرع نظاماً سياسياً لا يهادن إسرائيل. وهذا الهاجس استبقته إسرائيل بعمليات قصف وتوغّل في سورية تكاد تكون قد نزعت سلاحها.
و"الما بعديات" تنتشر بالعدوى، وبالتالي، يرجّح كاتب هذه السطور أن تشهد إسرائيل موجةَ سيناريوهات استشرافية متشائمة، تتناول ما بعد ما هو قائم اليوم في الخريطة العربية. وفي حال مدّ العقل الأمني الإسرائيلي الخطّ على استقامته، وهذا من سمات الفكر المتشدّد كفكر اليمين الحاكم الآن، فسيصبح العقل الإسرائيلي مسكوناً بضرورة أن يكون العرب (العرب كلّهم) مذعنين، لا محايدين ولا حتى متحالفين معها، وهو منطق صفري قد يطوي حقبة من البحث عن تسويات والسعي لبناء جسور بدأت بـ"كامب ديفيد"، وكانت مستمرّةً حتى وقت قريب، لكن السلام البارد لم يعد هدفاً إسرائيلياً.