حصيلة باهتة لتجدّد اللقاءات الأميركية الفلسطينية

حصيلة باهتة لتجدّد اللقاءات الأميركية الفلسطينية

20 نوفمبر 2021

محمود عباس وبلينكن يتباحثان في رام الله (25/5/2021/فرانس برس)

+ الخط -

زار وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، يوم 25 مايو/ أيار الماضي، رام الله، والتقى فيها برئيس السلطة الوطنية محمود عباس، في ما اعتبر أنه أول لقاء عالي المستوى بين الجانبين الفلسطيني والأميركي، وقد جاء اللقاء آنذاك بعد نحو 11 يوما من انتهاء الحرب الإسرائيلية على غزة. وكان الوزير الأميركي معنيا آنذاك بتقديم مساعدات إنسانية والعمل، في الوقت ذاته، على عزل حركة حماس التي أبلت بلاء حسنا في صد العدوان قياسا إلى ميزان القوى بين الطرفين. وفي اللقاء الذي جمعه بعباس، أشار بلينكن إلى عزم الإدارة الأميركية على فتح قنصليتها في القدس الشرقية، وسيلة للاتصال مع الفلسطينيين والتعامل معهم، "سيكون وسيلة مهمة لبلدنا للتعامل مع الشعب الفلسطيني وتقديم الدعم له"، على حد وصف رئيس الدبلوماسية الأميركية. وهو ما رحب به الجانب الفلسطيني، فيما تسبب التوجه الأميركي بارتباك لدى حكومة نفتالي بينت التي طالبت، ابتداءً، بتأجيل تنفيذ هذا القرار، قبل أن تعمل على الإعلان عن رفض القرار، مطالبة بأن يتم افتتاح القنصلية في رام الله لا في القدس عاصمة الاحتلال. ويُذكر هنا أن القنصلية الأميركية في القدس الشرقية كانت قائمة، وأبوابها مفتوحة، لكن وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض أضعف من نشاطها، قبل أن يُعمد إلى دمجها مع السفارة الأميركية التي تم نقلها إلى القدس.
بعد مرور زهاء ستة أشهر على تلك الزيارة، استقبلت رام الله مسؤولاً أميركيا آخر، أدنى مستوى، هذه المرة، السفيرة في الأمم المتحدة ليندا توماس غرينفيلد، التي التقت، الأربعاء 17 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، محمود عباس. وقد جاء هذا اللقاء في وقت تشهد فيه الأراضي الفلسطينية توترا عاليا مع قرار سلطات الاحتلال تصنيف ست منظمات مجتمع مدني إرهابية وإغلاق مقراتها عنوة في رام الله، إلى جانب التنكيل بالأسرى والاستباحة المنهجية للمسجد الأقصى وتعديات المستوطنين على المزارعين، وبالذات في موسم قطف الزيتون. ولوحظ أن السفيرة غرينفيلد استبقت الزيارة بتصريحها بأنها لن تلتقي ممثلي المنظمات المدنية الست، لكنها سوف تلتقي ممثلين لمنظمات مدنية أخرى، ما حمل ممثلي المجتمع المدني على رفض الاجتماع بها، إذ رأوا أن امتناع المسؤولة الأميركية عن لقاء ممثلي المنظمات الست يخدم الاحتلال في تسويق ادّعاءاته. علما أن المسؤولين الأميركيين دأبوا على الالتقاء بممثلي المجتمع المدني، بمن فيهم ممثلو المنظمات الست. وكانت الإدارة الأميركية قد أعلنت، في وقت سابق، أنها سوف تتفحص القرار الإسرائيلي، غير أنها لم تخرج بموقف بعدئذ. وقد أثار عباس مع غرينفيلد هذه المسألة، من دون أن ترشح تصريحاتٌ عنها.

إعادة فتح القنصلية كانت أحد الوعود الانتخابية لحملة جو بايدن. ولا توفر تل أبيب وسيلة لابتزاز الإدارة الديمقراطية في هذا الشأن

أما قرار إعادة فتح القنصلية الأميركية في القدس فقد تجنبت السفيرة الخوض فيها (على الأقل علنا)، وذلك إثر لقاءاتها بمسؤولي الاحتلال، رئيس الحكومة نفتالي بينت، ووزيري الخارجية يائير لبيد والدفاع بيني غانتس. وبينما صرّح عباس بأن الجانب الفلسطيني ينتظر تطبيق مواقف الرئيس جو بايدن على أرض الواقع، لم تشر التقارير الإخبارية التي بثتها وكالات فلسطينية، ليل الأربعاء، إلى مسألة إعادة فتح القنصلية الأميركية. وبينما بدا، إثر زيارة الوزير بلينكن، أن فترة الشهور الستة قد تكون كافيةً للتحضير لإعادة الممثلية الأميركية في القدس الشرقية، إلا أن هذه الفترة بدت كافيةً من أجل طي الحديث العلني بشأنها، بعدما اصطدمت إدارة بايدن برفض إسرائيلي جامح لهذا القرار، وبتحشيد نواب الكونغرس، ومنهم مائتا عضو جمهوري، ضد هذا القرار، فيما كان عضوان ديمقراطيان بارزان يزوران تل أبيب لدعم الرفض الإسرائيلي. علما أن إعادة فتح القنصلية يرتدي أهمية سياسية كبيرة، كونه اعترافاً أميركياً بحقوق الفلسطينيين في القدس الشرقية المحتلة. وكانت الإدارة الديمقراطية تريد منه الموازنة مع قراري ترامب، الاعتراف بالقدس عاصمة للاحتلال ونقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى المدينة المقدسة. وواضح أن الإدارة الأميركية تتريث بالبحث في هذه المسألة، خشية التسبب بأزمة كبيرة مع تل أبيب، تضاف إلى الأزمة الناجمة عن استئناف واشنطن التفاوض مع طهران بشأن الاتفاق النووي. علما أن إعادة فتح القنصلية كانت أحد الوعود الانتخابية لحملة جو بايدن. ولا توفر تل أبيب وسيلة لابتزاز الإدارة الديمقراطية في هذا الشأن، من مثل القول إن القرار الأميركي سوف يفتح الباب أمام عشرات الدول لفتح قنصليات في القدس، وإن هذا التوجّه قد يؤدّي إلى انهيار الائتلاف الحكومي الإسرائيلي الهش، فيما أنصار الاحتلال في الكونغرس يزعمون أن هذا القرار يتعارض مع قانون نقل السفارة إلى القدس، وأن قرار إعادة فتح القنصلية يتطلب موافقة "الدولة المضيفة" على فتح بعثة دبلوماسية.

ليس المطلوب إشعال مواجهة مسلحة كبيرة، بل إشاعة أجواء وإجراءات تُطلق فيها مبادرات شعبية وانتفاضات مدنية ومواكبتها سياسيا ودبلوماسيا

وفي هذه الأثناء، يقف الجانب الفلسطيني أمام غياب دعم خارجي، بما فيه الدعم العربي لهذه الخطوة الأميركية ذات القيمة الرمزية العالية. وثمّة خشية من جهود معاكسة تناصر الموقف الإسرائيلي الذي يسلب الهوية العربية للقدس، بما في ذلك المقابر التي يعاد نبشها وتسويتها بالأرض. وقبل ثلاثة أسابيع، لمّح نائب وزير الخارجية الإسرائيلي عيدان رول إلى أن الولايات المتحدة ستؤجل إعادة فتح القنصلية نتيجة للضغوط الإسرائيلية، وقال "إنهم يتفهمون التعقيدات السياسية والحساسية، ويتم التعامل مع القضية". والتأجيل أو شراء الوقت هو إحدى الألعاب الإسرائيلية المفضلة من أجل إطفاء تدريجي للاهتمام بمسألة ما. أما الإدارة الأميركية الحالية فتنتهج أسلوبا يقوم على تجديد التعامل مع المستوى السياسي الفلسطيني، وتقديم عون مالي وبث إشارات حول التمسّك بحل الدولتين، ورفض الخطوات أحادية الجانب، وهي عبارة لازمت التعامل الدولي مع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي مذ أزيد من نصف قرن، ولكن مع حذر مُبالغ به يؤدّي إلى شلل سياسي، من مظاهره امتناع مسؤولة أميركية عن اللقاء بممثلي منظماتٍ مدنيةٍ تعمل في الحقلين الاجتماعي والإغاثي، وكذلك عدم التفكير باللقاء مع عائلات حي الشيخ جرّاح في القدس، مع أقل إصغاء للتحولات في المجتمع الاميركي نحو تأييد الحقوق الفلسطينية، بما في ذلك في صفوف الحزب الديمقراطي.
من المؤسف أنه بينما استعادت قضية فلسطين مكانة متقدّمة على الأجندة الدولية، في غمرة الحرب العدوانية على غزة في مايو/ أيار الماضي، فقد أخذت هذه المكانة تتراجع مجدّدا، وخلال هذه الفترة القصيرة وسط الاهتمامات الدولية بأزمة تايوان والحرب الإثيوبية والتهديدات الروسية لأوكرانيا والسعي إلى تنشيط المفاوضات الغربية مع إيران. والدرس غير المستفاد أن "تهدئة الأوضاع"، بما في ذلك الامتناع عن إجراء انتخابات نيابية، من شأنه أن يطفئ الاهتمام الخارجي، وليس المطلوب إشعال مواجهة مسلحة كبيرة، بل إشاعة أجواء وإجراءات تُطلق فيها مبادرات شعبية وانتفاضات مدنية ومواكبتها سياسيا ودبلوماسيا، لأن أحدا هنا وهناك لن يسمع من ساكت.