حشدٌ على المسرح وأدوار .. ولا خواتم

حشدٌ على المسرح وأدوار .. ولا خواتم

04 نوفمبر 2021
+ الخط -

بالأمس البعيد، منذ أسبوعين، طفا على المسرح اللبناني تقاتلٌ بين شخصيتين، وصارت المفاضَلة بين أيهما "أعظم" من الثاني: سمير جعجع أم حسن نصر الله؟ الأخير زعيم مليشيا طائفية بلا ريب، والثاني زعيم مليشيا طائفية أيضاً، ولكنها الآن صاحبة تقية. الأخير مقدَّس، والثاني لا يقلّ قداسة. الأخير قتل من الناس ما لا يُحصى، والثاني كذلك، في مواقع جغرافية وتواريخ مختلفة. الأخير مختبئ تحت الأرض، في الضاحية الجنوبية وسط مريديه، ولا يظهر إلا عبر شاشةٍ عملاقة. والثاني منكفئ في أعالي الجبال، في قرية معراب في كسروان.

يختلف الرجلان قليلاً، فنصر الله، كما يعتزّ هو بنفسه، يأتمر بإمرته مائة ألف مسلّح، وإشارته إليهم، من باب ترهيب خصمه وخصومه، ليست جديدة. كان يضيف إليها "الصواريخ الدقيقة"، والروح "الجهادية" للرجال الذين كان يرسلهم إلى القتل أو الموت. وهو بذلك يتفوّق على سمير جعجع، عددياً، وعسكرياً وسياسياً... بما تأهل الثاني، نصر الله، ليتحكّم بمفاصل الدولة، ولا يقف بوجهه أحد، حتى خصومه. فيما جعجع، قبل الاصطدام بنصر الله، كان لا يملك غير التحالف مع غريمه المسيحي الأقوى، العونيين، حلفاء نصر الله المكرَّسين. والخيبة فيما بعد من نكثهم بوعود تقاسم السلطة مع حزبه، نظراً إلى جوعهم العتيق. ثم الانكفاء، وخفض الصوت والنقد "الهادئ" بحق الحاكم الأقوى، نصر الله، لتأتي لحظة تدشين العداوة الصريحة معه في اشتباكات الطيونة.

ارتباطات جعجع "الخارجية" ليست على درجةٍ عالية من الوثوق، ولا تملك تاريخاً خاصاً بها، إلا تسريبات من هنا وهناك، آنية ومتقطّعة

والفرق الآخر أن ارتباطات جعجع "الخارجية" ليست على درجةٍ عالية من الوثوق، ولا تملك تاريخاً خاصاً بها، إلا تسريبات من هنا وهناك، آنية ومتقطّعة. بدأت مع الإسرائيليين، ثم تقلّصت أو تبدّدت، وتابعت طريقها مع الغرب ومع دول الخليج. بطيئة كانت تلك العلاقات، غير موصولة، مستأنفة بين حين وآخر، وهي الآن، أي العلاقات الخارجية، في ذروتها. ولكن لا مجال لمقارنتها بالعلاقة العضوية التاريخية التأسيسية التي تقوم بين حزب الله وإيران. ومن دون تقية، ولا أي نوع من الاستحياء. يحكيها ويردّدها حسن نصر الله مراراً، ويدخل أحياناً في تفاصيلها. وضعف علاقات سمير جعجع الخارجية سهّل إدخاله الى السجن أحد عشر عاماً، بعد نهاية الحرب الأهلية، عقوبةً على موقفه السلبي من حاكم لبنان الجديد وقتها، حافظ الأسد.

الاشتباك الذي حصلَ قبل ثلاثة أسابيع انتهى حتى الآن بتعادل الحجّة والإجراءات، الانتقامية منها، و"القانونية". تحمّس اللبنانيون كثيراً لسمير جعجع، على اختلاف طوائفهم، واعتبروا أن نصر الله ذهب بعيداً بالاستقواء بسلاحه، وبتجييش جمهوره وإثارة "أبغض" غرائزه المذهبية.

وثار نقاش جانبي بشأن "منطق" هذا "الانقلاب" الطائفي. ففيما نصر الله يربِّح المسيحيين جميلاً ليل نهار بالقول إنه ذهب يقتل سوريين في سورية "دفاعاً عن الأقليات"، أي المسيحيين والشيعة، ضد "داعش"، أتت اشتباكات الطيونة، لتكرّس النقيض: صراع بين رهط يهاجم أحياءً مسيحية، صارخاً "شيعة شيعة"، ورافعي الصلبان في هذه الأحياء، دفاعاً عنها ضد هجمات هذا الرهط الغاضب. وممَّ هو غاضب؟ من قاضٍ يحقق في انفجار المرفأ، لا يعجب قيادتهم. ودخل الاثنان، نصر الله وجعجع، بمقاضاة بعضهما... وكانت معركة كبرى تلوح في الأفق، والانتخابات على الأبواب، هما بطلاها. وكانت المدينة على موعد آخر، مع جولةٍ أخرى بين الاثنين. اليوم التالي سوف يجليها، فترقُّب وحذر في مناطق الاحتكاك، وقطع للأنفاس.

غابَ نصر الله وجعجع فجأة عن الخشبة. وحضرت بقوة شخصية أخرى، جورج قرداحي

لكن المسرحية لم تكتمل. غابَ نصر الله وجعجع فجأة عن الخشبة. وحضرت بقوة شخصية أخرى، جورج قرداحي. من هو قرداحي؟ مقدّم برامج ترفيهية، على شاشات خليجية. ينطق بكلمات أمْلاها عليه مُخرج هذه البرامج، وكأنها كلماته. معروفٌ بما يعتبره كثُرهم "وسامته". وهو يصدّق ذلك، ويتصرّف على أساسه. ليست معروفة تماماً علاقته بالأجهزة، ولكنه لا يقول غير قولها. بدءاً بمديح الديكتاتورية و"حب" بشار الأسد وحسن نصر الله، وإخراس الرأي الآخر، وتأييده المليشيات الحوثية اليمنية في حربها ضد السعودية والإمارات. هذا كله معروفٌ قبل أن يتبوأ الرجل منصب الوزارة الرفيع.

هل هذه المواقف حالت دون تعيينه وزيراً؟ بالعكس تماماً. هو لم يقلْ شيئاً مخالفاً لأقوال الممانعة الثاتبة: كلمات لا تتطلب غير الترداد، مثله مثل آلاف الممانعين الذين ينطقون بها. ماذا كان يجب أن يفعل، وقد تورّط أو ورّطه غيره بإذاعة "أهم"، هذه الأقوال، التي يعتبر فيها مليشيا الحوثيين "مقاوِمين"...، غير أن يؤكدها، أن يعتزّ بها، وأن يتعالى على الاعتذار؟ فكانت الأزمة الكبرى، ردّة فعل السعودية ومعها دول خليجية أخرى، اتخذت قرارها بالانتقام بسحب السفراء، بوقف الاستيراد من لبنان... فكانت المعضلة الشكسبيرية: هل تستقيل الحكومة؟ أم يستقيل جورج قرداحي؟ أم يُقال؟ ومرارة الإجراءين. فإذا استقالت الحكومة، وأعيدت دورة "التشكيل" من أولها، فممن ستتشكل؟ إن لم يكن من أشباه القرداحي، يتحلون ربما بالخبث والروية وموهبة "تدوير الزوايا". أما إذا لم يستقل القرداحي أو يُقَل، فتتصاعد الأزمة، ويخطو لبنانيو الداخل والخارج بمزيد من الخطوات في نزولهم نحو جهنم. وفي كلتا الحالتين، هل سيكون وزير الإعلام اللاحق أقلّ ولاءً لمحور الممانعة؟

تحمّس اللبنانيون كثيراً لجعجع، على اختلاف طوائفهم. واعتبروا أن نصر الله ذهب بعيداً بالاستقواء بسلاحه

وفي الأساس، كيف تشكّلت الحكومة؟ من أين جيء بهذه "الكفاءات" إلى الوزارات المختلفة؟ وبصماتهم من أولى لحظاتهم. وزير الضفادع، وزير الحفاضات، وزير المواعظ، وزير كمال الأجسام، وزير تعارف الشباب والرياضة .. لماذا هم على هذا المستوى من الضحالة؟ وهل تكون الركاكة معياراً؟ وهل يتزايد احتساب هذا المعيار عند تشكيل الوزارات المتتالية، بحيث تكون كل وزارةٍ أسخفَ من التي سبقتها؟

وقبل أن تحلّ شخصية جديدة على الخشبة، وتضع مسألة القرداحي على رفّ الصراع بين جعجع ونصر الله، وينصرف اللبنانيون إلى قنبلةٍ جديدة، أمنية، دبلوماسية، اقتصادية، تُطرح الأسئلة البديهية التي نسيناها: لماذا يحكم "الحاكم"، أو المتحكّم؟ ما هدفه؟ ماذا يعني "حُكم"؟ كيف يحكم الحكّام؟ ماذا يفعلون؟ كيف يقضون نهارهم؟ بأية "مهماتٍ" يقومون؟ ماذا يعني "مسؤول"، أو "سياسي"، أو وزير؟ أو رئيس أحد مجالس الدولة؟ ماذا تعني "دولة"، أصلاً؟ ماذا يعني ضياع بلد؟ ماذا يعني ضياع شعب؟