حساباتُ صفقة غزّة

16 يناير 2025
+ الخط -

بات الإعلان عن اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزّة بين حركة حماس وإسرائيل مسألة وقت، بعد توصل الطرفين إلى سد معظم الفجوات التي كانت تحول دون إتمام الاتفاق خلال الشهور المنصرمة، والتوافقِ على خطوطه العريضة. وتتضمّن مسودة الاتفاق تبادلا للرهائن والأسرى، وانسحابَ الجيش الإسرائيلي من القطاع، وإدخال المساعدات، وبدءَ إعادة الإعمار.

إسرائيليا، جاء قبول رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو بالاتفاق بعدما اتّسعت قاعدة المطالبين بإبرام صفقة تبادل داخل إسرائيل، وتزايد ضغوط النخبة الإسرائيلية التي أصبحت ترى أن الحرب في قطاع غزّة تحوّلت إلى حرب استنزاف غير مبرّرة، أمام الخسائر الفادحة التي تكبدتها قوات الجيش خلال حملتها العسكرية أخيراً في شمال القطاع. كما كان لضغوط الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب أثرها في سحب البساط من تحت أقدام نتنياهو وجعله يتراجع عن قراره بمواصلة الضغط العسكري على المقاومة وتحرير الرهائن بالقوة. غير أن ذلك يضع نتنياهو، في الآن ذاته، في حرج شديد أمام الرأي العام الإسرائيلي، على اعتبار أنه وافق على صفقةٍ ظل يرفضها شهوراً، قبل أن تجبره الضغوط المذكورة على تقديم تنازلاتٍ من أجل إتمامها.

بالتوازي مع ذلك، تضع الصفقة نتنياهو في مأزقٍ إزاء شركائه من اليمين الصهيوني المتطرّف داخل الائتلاف الحكومي الذي يقوده، فقد ظلّت حساباتُه تربط التوصّل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بضرورة الحفاظ على هذا الائتلاف. ولذلك يسعى إلى تسويق الصفقة سياسيا من خلال إقناع هؤلاء بأن قبوله بها جاء بعدما حققت إسرائيل معظم أهدافها، وفي مقدمتها تدمير البنية التحتية للمقاومة الفلسطينية، واغتيال معظم قياداتها السياسية والميدانية، وتفكيك حاضنتها الإقليمية.

في السياق ذاته، يشكل وقف إطلاق النار في غزّة انتكاسة سياسية لليمين الصهيوني المتطرّف، على الأقل في المنظور القريب، فقد كان يريد تحرير الرهائن من دون دفع ما يعتبرها أثماناً باهظة بالنسبة للأمن القومي الإسرائيلي. لكن اتساع قاعدة المؤيدين داخل الشارع الإسرائيلي لإبرام اتفاق تبادل قلّص نسبيا هامش الحركة أمام قادة هذا اليمين، وفي مقدمتهم وزيري المالية بتسلئيل سموتريتش والأمن القومي إيتمار بن غفير.

بالنسبة لحركة حماس، كانت حريصة خلال المفاوضات على التمسّك بإبرام صفقة تبادل ووقف الحرب وانسحاب الجيش الإسرائيلي من غزّة وعودة النازحين وإدخال المساعدات العاجلة وإعادة الإعمار. وقد نجحت في الربط بين مفاوضات الدوحة وما تكبّده جيش الاحتلال من خسائر فادحة في شمال القطاع خلال حملته التي استمرّت أكثر من مائة يوم. هذا في وقت فشل فيه الاحتلال في استخلاص العائد السياسي لحملته خلال المفاوضات، بعدما لم يعد هناك إجماع داخل إسرائيل على مواصلة الحرب. وقد كان لافتاً للغاية تسارع وتيرة العمليات النوعية التي نفذتها المقاومة في مطلع الأسبوع الجاري، في ما بدا رسالةً دالّةً أرادت إيصالها إلى دولة الاحتلال وحلفائها في منعرج مفصلي من المفاوضات، لإدراكها أن نتنياهو يسعى إلى فك الارتباط بين المفاوضات في الدوحة وخسائر قواته في شمال القطاع.

إضافة إلى ذلك، شكّل إنجاح صفقة التبادل مع دولة الاحتلال مسؤولية أخلاقية وسياسية بالنسبة لـ"حماس"، فقد كانت معنية، أكثر من أي وقت مضى، بأن لا تظهر أمام الرأي العام الفلسطيني والإقليمي والدولي وكأنها تعرقل الصفقة، احتراماً لما تكبّده سكان القطاع طيلة، أكثر من سنة، من أهوال وويلات تفوق الوصف. ولعل ما صرّح به زعيم المعارضة الإسرائيلية يائير لبيد، مطلع الأسبوع الجاري، بأن ''حماس لا ترغب في عرقلة صفقة تبادل''، يبدو تبرئة غير مقصودة لما سبق أن اتهم به مسؤولون إسرائيليون وأميركيون الحركة أنها تعرقل التوصل إلى اتفاق إطلاق النار في غزّة.

بات قطاع واسع من الإسرائيليين مقتنعا بأن حرب غزّة استنفدت مبرّراتها في ظل الإرهاق الجسدي والنفسي الذي تعانيه قوات الجيش في القطاع، وتحوّلت إلى حرب استنزاف تجر الدولة والمجتمع إلى حلقة مفرغة.