حزب الله ومعركة تفكيك لبنان

حزب الله ومعركة تفكيك لبنان

14 يناير 2022
+ الخط -

يُظهر المشهد السياسي في لبنان، الذي يُمكن وصفه بأنه بالغ التعقيد، أنّ حزب الله ماضٍ في تنفيذ خطته التي فرضها على القوى السياسية اللبنانية المختلفة منذ نجاحه في عام 2016 في فرض ميشال عون رئيساً للجمهورية، ومن ثم فرض التوازنات التي يريدها على الحكومة، ومنها اعتماد قانون للانتخاب على أساس النسبية، الذي أعطاه لأول مرة أكثرية في مجلس النواب بعد انتخابات عام 2018. منذ ذلك الوقت، نجح حزب الله الذي تحوّل إلى دولة داخل الدولة في فرض أجندته على الجميع من خلال ترسيخ الأزمات المتلاحقة التي عصفت بلبنان، وجديدها أزمة التصريحات الاستفزازية للأمين العام للحزب، حسن نصرالله، تجاه دول الخليج عموماً، والعربية السعودية خصوصاً، ومن قبلها أزمة وزير الإعلام السابق، جورج قرداحي، وأزمة التحقيق في انفجار مرفأ بيروت، وما نتج منها من حالة الاستعصاء في ما يخص تعطيل عمل الحكومة منذ منتصف أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، ومنع الدولة من العمل، كجزء من السياسة المدمّرة التي يتّبعها الحزب لتعطيل مؤسسات الدولة وشلّها وتفكيكها من الداخل.

بات لبنان يخضع بكل مجالاته لسيطرة حزب الله

مرّت سياسة حزب الله في تفكيك الدولة اللبنانية والسيطرة على مؤسساتها الحيوية بمراحل عديدة وإجراءات متسلسلة، بدأها في وقتٍ مبكرٍ بالاستثمار في الطائفة الشيعية اللبنانية وعسكرتها وتنظيمها في إطار عقائدي مسلّح، تخطّى أصلاً مفهوم الدولة اللبنانية إلى التبعية لإيران ولوليّها الفقيه، أتبعها بالسيطرة على بعض مؤسسات الدولة اللبنانية، وأهمها مطار بيروت ومرفأها، إلى جانب المنافذ الحدودية البرية غير الشرعية مع سورية، واستغلالها لتمويل أنشطته المختلفة وضخ الأموال في اقتصاده الخاص الموازي للاقتصاد اللبناني من خلال تجارة المخدّرات والأسلحة والوقود، وتحويل لبنان من دولةٍ ذات مركز ثقل مالي واقتصادي، خلال حقبة التسعينيات ومطلع القرن الجاري، إلى دولة مشتتة وممزّقة تُحكم بالسلاح المتفلت والأجندات الخارجية، وترتبط اقتصادياً بالمشروع الإيراني، هذا إلى جانب لعب الحزب على موضوع الخلافات الداخلية بين القوى السياسية اللبنانية، وتحويلها إلى مجموعة من الجزر المتنافرة، يعمل على الربط بينها متى أراد وعزلها متى شاء، والتوظيف السياسي لأي ملف أو قضية داخلية في لبنان، ومحاولة اجتراح الحلول لها وفق توافقات وتشابكات محدّدة، خدمةً لمصالحه وأجندته، حتى وإن كانت على حساب لبنان وشعبه، مع الحفاظ على وضعٍ يجعله بعيداً عن المساءلة عن أفعاله ومآلاتها، هذا عدا عن إصراره على نزع لبنان من محيطه العربي، وإلحاقه بالمحيط الفارسي، من خلال المجاهرة بتبعيته لإيران، ومهاجمة الدول العربية والتدخل في شؤونها الداخلية خدمةً لمصالح إيران التي يرغب السيد حسن نصر الله في أن يكون لبنان جزءاً من "جمهوريتها الإسلامية الكبرى" القائمة على نظام حكم الملالي، وهو لا يترك مناسبةً ولا خطاباً من دون أن يشدّد على الولاء لأوامر المرشد الإيراني الأعلى وتعليماته، باعتباره "قائداً للمقاومة"، من دون أدنى اعتبار للدولة اللبنانية ومصالحها الاستراتيجية وعلاقاتها الإقليمية والدولية.

في ظل هذا الواقع، بات لبنان يخضع بكل مجالاته لسيطرة حزب الله، وهي المرة الأولى، منذ ظهوره على المسرح السياسي اللبناني عام 1985، يبسط فيها الحزب هذا المقدار من النفوذ المباشر والهيمنة على سلطات الدولة اللبنانية ومؤسّساتها، التي أدّت، في ما أدّت إليه، إلى تفكيك بنية الدولة في عديد من مؤسساتها، كما أدّت إلى تدمير البنى الاقتصادية التحتية، ما أوصل البلد إلى مستوياتٍ غير مسبوقة من الفقر والحرمان والبطالة وهجرة الكفاءات إلى الخارج، بحثاً عن لقمة العيش بكرامة واحترام، والأرقام الصادرة على المنظمات الدولية واضحة وصريحة، وتعطي تصوّراً كاملاً عن حجم هذا الانهيار، وعن تحوّل لبنان إلى دولة فاشلة متخبّطة عاجزة عن تأمين الكهرباء والماء والتعليم والطبابة والدواء، وغير قادرة على صياغة سياستها الخارجية بما يتناسب مع الحفاظ على علاقاتها مع الدول الصديقة والشقيقة، وبما يتفق مع حاجة الحفاظ على مصالحها الحيوية وعلى مصالح مواطنيها.

مرّت سياسة حزب الله في تفكيك الدولة اللبنانية والسيطرة على مؤسساتها الحيوية بمراحل

يكشف هذا الأمر، في المقام الأول، عن مكامن خلل بنيويّة وخطيرة في النظام السياسي الطائفي في لبنان، الذي سمح لحزب الله، ومن خلفه إيران، بتحويل النظام التعدّدي اللبناني إلى "نظام توافقي" يبسُط فيه الحزب هذا المقدار من النفوذ المباشر والهيمنة على سلطات الدولة اللبنانية ومؤسّساتها، إلى درجة بتنا اليوم نسمع مطالباتٍ علنية من قادة الحزب باتجاه تغيير النظام السياسي في لبنان، بعد أن بات هذا النظام، حسب تصوّر هذا الفريق، أضيق من فائض قوته ومداه الإقليمي، وهو ما يعدّ بمثابة دعوة إلى التقسيم بشكلٍ غير مباشر، يحاول هذا الفريق فرضه فعلياً من خلال منظومته السياسية والعسكرية والأمنية والمالية والتربوية والاقتصادية والصحية، في ظل سلطة تنفيذية مسلوبة الصلاحيات، ورئيس جمهورية يعيش حالة إنكارٍ للوضع الكارثي، ومليشيا عديدها يفوق عديد الجيش اللبناني ومعارضة مشتّتة غير قادرة على المواجهة، ومفتقرة إلى دور قيادي حقيقي قادر على تسمية الأشياء بمسمّياتها الحقيقية.

في حصيلة ما سبق، يمكن القول إنّ حزب الله، في ضوء أجندته الهادفة إلى تفكيك الدولة اللبنانية، بات يضع اللبنانيين أمام خيارين لا ثالث لهما، إما الموت لمصلحة مشروعه أو المواجهة، بعد أن أقفل الحزب كلّ الطرق التي يمكنها أن توفّر للبنان مخارج معقولة من مآسيه. ويرى لبنانيون عديدون في الخيار الثاني قدراً لا بدّ من التسليم به، على أمل إنهاء هذه السيطرة وإعادة لبنان إلى وضعه الطبيعي ومحيطه العربي بعيداً عن سياسة المحاور والتحالفات الإيديولوجية.