حزب الجبهة الوطنية في مصر أو توزيع الأدوار

25 يناير 2025
+ الخط -

أعلنت، في نهاية الشهر الماضي (ديسمبر/ كانون الأول)، مجموعة نُخَب مصرية، تضم وزراء سابقين ورجال أعمال وإعلاميين، تدشين حزب الجبهة الوطنية، الخطوة التي تساندها أجهزة السلطة وتعتمد بشكل أساسي على رجالها في مرحلة صعودها إلى الحكم، تسعى اليوم إلى استحضار مشهد التأييد الذي تشكّلَ قبل عشر سنوات، ووسيلتها بناء جبهة سياسية، وإن اتخذت مؤسّساتياً صفة الحزب الذي ينادي بالوحدة في ظلّ التنوع لمواجهة تحدّياتٍ تواجه الدولة على مستويين داخلي وخارجي. وفي مرحلة تشكّل ظرفاً استثنائياً، تستدعي تفعيل المشاركة المجتمعية عبر كيان سياسي يضخّ دماءً جديدةً. يحمل هذا التوجّه ضمناً اعترافاً بأزمة النظام الذي يحتاج إلى التعافي، ويستخدم المشاركة السياسية ليظهر قدرةً على إصلاح نفسه، وممارسة السلطة بقدر يؤكّد شرعيته عبر بناء تحالفات تدعمه، واستخدام خطاب وطني، والتذكير بالإنجازات والوعد بالإصلاح، وهو ما يشير إليه المؤسّسون بشكل متكرّر بلمّ شمل (وإعادة إحياء) تحالف 30 يونيو (2013)، الذي جمع أطياف الشعب المصري ضدّ حكم الإخوان المسلمين، إلى جانب حالةٍ من استعراض القوة، سواء استندت إلى تجمّعات نُخَب وعائلات ومجموعات مصالح أو إلى قوى أمنية.

يبدو الارتباك واضحاً لدى مؤسّسي الحزب، بداية من توصيفه وأهدافه، وتوجّهاته نحو القوى السياسية، ما قد يعود إلى افتقاده رؤيةً وهُويَّة واضحتين، وعدم اليقين بشّأن طبيعة دوره مستقبلاً، إضافة إلى تناقض في أهدافه حالياً، فهو يتّخذ شكل الحزب السياسي قانونياً ومؤسّساتياً، لكن مهمّته الأساسية تبدو تدشين جبهةٍ تقوم على تحالفات سياسية من كتل السلطة والمعارضة، من المفترض أن تتعاون في ما بينها لإسناد النظام، ويظهر الحزب محلّقاً فوق الاختلافات الفكرية والاجتماعية والطبقات، فكتلته الرئيسة من رجال الأعمال ومجموعات المصالح، لكنه يدّعي أنه يمثّل مصالح المجتمع كلّه. وعملياً، أي حزب لا يمكنه تمثيل الطبقات كافّة، التي تختلف في توجّهاتها، وتتعارض طبقاً لمصالحها وأحوالها.

الكتلة الرئيسة للحزب من رجال الأعمال ومجموعات المصالح، لكنه يدّعي أنه يمثّل مصالح المجتمع كلّه

ويحاول الحزب ورموزه الفكرية الإيهام بتجاوز الاختلافات، للاتفاق حول بناء جبهة تدعم الاستقرار السياسي، وفي سبيل ذلك، يسعى إلى جذب كتل جديدة إلى ساحة السلطة، في مقابل الاستفادة من الوعود بإعادة هندسة المشهد السياسي وتقاسم الأدوار، تحت شعار "مصر للجميع"، بشرط أن ينضوي "الجميع" تحت مظلّة الحكم، عبر ما دُعِي إليه من إعادة تحالف 30 يونيو إلى الواجهة حلّاً وأداةً للإصلاح وتصحيح المسار، وميلاد مرحلةٍ تتوحّد فيها أطياف المجتمع خلف القيادة، وإن اتخذت الدعوة شعارات مثل التوحّد حول الوطن ودعم الدولة، لكنّ المفهوم ضمنياً تأييد السلطة بشكل مطلق، ومؤتمرات الحشد وتعبئة المواطنين لجمع توكيلات للحزب، تجاوزت 50 ألفاً أخيراً، ويسعون إلى مضاعفتها، هي نسخ متقاربة من خطابات ومضامين روّجت عن مرشّح الضرورة، وحملات "كمّل جميلك" (2014)، و"عشان تبنيها" (2018)، وليس انتهاءً بحملة "كلّنا معارك من أجل مصر" في انتخابات 2024 الرئاسية، ولم يكن غريباً أن يكون معظم مؤسّسي حزب الجبهة أعمدةَ هذه الحملات على مستوى التنظيم والدعاية حول مستقبل الوطن والدولة ومواجهة المخاطر، والحفاظ على الاستقرار... إلى آخر القاموس الذي تتكرّر مفرداته غير استخدام أساليب الحشد ذاتها اعتماداً على جمعيات أهلية، ومؤسّسات تابعة لرجال الأعمال، إلى جانب مكاتب أعضاء مجلس النواب وقوىً تقليدية، عائلية وقبلية، ترتبط بالسلطة تاريخياً أين ما كان توجّهها للحفاظ على مصالحها، إلى جانب أعضاءَ معيَّنين في مجلسي النواب والشيوخ.

بهذه الرؤى والأساليب يُدشّن حزب من نوع جديد، من حيث التكوين، يدّعي تمثيل فئات المجتمع كلّها، ويجمع خليطاً غير متجانس فكرياً وسياسياً وطبقياً، ما يجعل توصيفه مربكاً، حتى بالنسبة للمؤسّسين أنفسهم، بين حزب للموالاة أو للمعارضة، بينما هو عملياً جبهة سياسية، تضمّ مجموعات مصالح، لا يجمع أفرادها برنامج أو سياسات أو فِكَرٌ متماسكة، بقدر تحلّقهم حول الحكم، وينطلقون في اتفاقهم إلى العمل المشترك من سياقات أهمها، أولاً ضعف البناء السياسي الداعم للسلطة ومحدودية المشاركة السياسية، ما يتطلّب دماءً جديدةً تنعشه. ثانياً، الوضع الاقتصادي المتأزّم، الذي أضرّ فئاتٍ متنوعةٍ، ولم يفكّك أزمات قديمة وهيكلية. ثالثاً الظروف الإقليمية غير المستقرّة، ووجود نزاعات مشتعلة، ومخاطر تمثّل كرة لهب. وهذه السياقات بما فيها من تبرير وتسويق لفكرة الجبهة "الضرورية لمواجهة التحدّيات" جرى تكرار ذكرها (مجتمعةً أو بعضاً من جوانبها) من مؤسسين للحزب طوال أسبوعَين من إعلان تدشينه، من فندق الماسة بالعاصمة الإدارية الجديدة، وجاءت خلال أحاديثهم لوسائل إعلام، سواء اتسمت بالمواربة أو الصراحة إلى درجة الحدّة، أداةَ تحذير من الوضع السياسي القائم، وضرورة تعزيز المشاركة السياسية، كقول أحدهم: "إن ضعف البناء السياسي في دولة يقتطع من قوة النظام، الذي قد ينهار، كما حدث في دول عربية"، في إشارة إلى الحدث السوري، ونماذجَ مشابهةٍ تفاعلت فيها الظروف الخارجية مع الأزمات الداخلية في هذه البلدان.

يبدو الارتباك واضحاً لدى مؤسّسي حزب الجبهة الوطنية لافتقاده رؤيةً وهُويَّة واضحتين

ليست هذه الرؤية، التي تستشعر المخاطر، قاصرةً على مؤسّسي الحزب، وظهرت لدى بعض رموز النظام ومناصريه، ودالة عليها خطابات رسمية متكرّرة في الفترة الماضية عن مسار الحكم خلال عقد، وضرورة الحفاظ على البلاد من "الفوضى"، في إشارة إلى احتمالات انفجار اجتماعي أو تشكّل مسارات للتغيير خارج البناء السياسي الرسمي. وتزامن مع هذا الخطاب سعيُ السلطة لجذب أطراف إلى ساحتها، بما في ذلك لقاءات مع كتل من رجال الأعمال، إلى جانب بيان إعلان الحزب وما تضمّنه من تشخيص للأزمة، وأهداف لتجاوزها، عبر إصلاح المناخ السياسي والاقتصادي، وتعزيز الحوار الوطني بين أطياف المجتمع، والتبشير بمرحلة جديدة برعاية مؤسّسات السلطة الصلبة، وإشارة إلى محطّتي التغيّر في يناير (2011) و30 يونيو (2013) بوصفهما، نبراساً ملهماً لعمل الحزب، ومحاولة تصويره منتمياً إلى تيار تغيير إصلاحي، لا يعادي ثورة يناير ومطالبها.

ومع تنوّع التعبيرات عن أهداف الحزب، وربّما اختلاف المؤسّسين حولها، لأسباب عدة ترتبط بمصالحهم وتوجّهاتهم المختلفة، تبدو شخصية الحزب مشوّشة، إلا أنهم يجتمعون في أن مصر بلداً (وأيضاً سلطةً) تمرّ بمرحلة استثنائية تتمثّل في تعدّد التحدّيات، ما دفعهم إلى النقاش في ما بينهم، ومع كتل ونخب سياسية، على مدار أشهر للبحث عن حلّ، ما أنتج فكرةَ تكوين جبهة سياسية تتبنّي مخرجات جلسات الحوار الوطني بشّأن قضايا الإصلاح السياسي والاقتصادي والحرّيات وغيرها، وتهدف إلى الإصلاح من داخل النظام دعماً لمؤسّساته، وأن يوفّر الحزب (الذى يعتبر نفسه بيت خبرة الحلول) منصّةً للحوار بين مختلف القوى السياسية، ويعد بالتمايز عن كيانات افتقدت الدور السياسي، فكانت أقرب وظيفياً في أنشطتها إلى الجمعيات الأهلية، في تقييم (ونقد) أحزاب السلطة، مردّدين أنهم ليسوا أصحاب أغراض شخصية، ولا هابطين من السماء، بمعنى أنهم لم يخلقوا في معامل السلطة التي دأبت على إحلال النُخَب بصناعة نُخَب جديدة مع كلّ مرحلة من التغيير السياسي، كما أنهم ليسوا حزباً لتوزيع البطاطين والأغذية التي تتصل بعمل الجمعيات الأهلية لا الأحزاب، في إشارة إلى حزب مستقبل وطن وأقرانه، وعملياً تتمثّل أهداف الجبهة في تمكين منظومة الحكم من الاستمرار بوجهات سياسية جديدة.

توصيف "الجبهة" مربك بين حزب للموالاة أو للمعارضة، بينما هو جبهة سياسية، تضمّ مجموعات مصالح

تسوّق نخب الحزب الجديد نفسها بالمخالفة لتجارب سابقة، فهم من حيث التكوين والسمات رموز تكنوقراط، يمتلكون خبرات فنّية في الإدارة، وتاريخ سياسي، وسمات شخصية بينها النزاهة والبعد عن الأغراض الشخصية والتطلّع للمناصب، كما أنهم أصحاب فكر، يحملون رؤىً تجسّد المصلحة العامّة، وتتركّز في الحوار بين تيّارات فكرية متعدّدة بما يحقق إصلاح المناخ السياسي، ويعتمدون على "نُخَب القوة" التي تحوز رأسمالا اجتماعيا وماليا وسياسيا، ويجمع مشاهير وصفوة مجتمع مختارة، وزراءً وكتّاباً وفنانين، تحاول حصد القبول، وجذب تأييد قطاعات المجتمع، مستندة على قوة رأسمال، وروابط القرابة والعائلة والقبيلة وتقاطعها وارتباطها بفكرة الولاء السياسي، كما يوهم بتمثيل الشباب والنساء، كما تكوينات سابقة حاول استنساخها في الحزب الجديد ممثلةً الشباب والمجتمع المدني. وضمن أدوارهم دعم المشاركة السياسية، والتعاون بين الأحزاب من دون منافسة قد تكون غير مفيدة، كما يدّعون، لأن الظرف خطر، لا يحتمل إطلاق ساحة التنافس وتحريرها من القيود، لا بين مكوّنات ورجال السلطة، ولا من خارجها. لذا، تتّخذ توجهاته نحو القوى السياسية مسارين، الأول جذب قوى من المعارضة الإصلاحية المستعدّة للتعاون مع النظام، على أن تنخرط في تحالفت سياسية وانتخابية متّفق عليها. والمسار الثاني يرتبط بأحزاب السلطة "مستقبل وطن" و"حماة وطن" و"الجمهوري" وغيرها، إذ ستتعاون الجبهة مع من تبقى في قيادتهم بعد انضمام عدد منهم إلى الحزب الجديد، الذي يبعث رسائل طمأنة بأنه غير ساعٍ للاستحواذ السياسي، ولا إلى تشكيل حكومة حالياً، ولن يزيح النُخَب البيروقراطية الحكومية، وينتج هذا التوجّه تشكّل جبهة سياسة، تعيد قيد تحالف 30 يونيو، الذي جمع الشعب ضدّ الإخوان، وهو ما دفع مؤسّسي الحزب إلى القول إنهم ليسوا حزباً معارضاً، وليس موالياً، لكي يستطيع أن يقوم بالمهمَّتَين: جذب قوى معارضة للتفاهم معها، والتنسيق مع أحزاب السلطة، لتكون المحصّلة النهائية خلق مشهد سياسي يبدو متنوعاً، يكون داعماً للسلطة، ويمثّل شبكةً تسانده أمام أزمات داخلية وتحدّيات خارجية. وعملياً، سيغيّر هذا التوجّه من الأوزان النسبية للفاعلين ومن توزيع الأدوار، ويخلق تنافساً بين قوى السلطة، لكن يُبقِي الحياةَ السياسيةَ من دون فاعلية، لأن المشاركة ستبقى مقيّدةً، والتنافس من وجهة نظرهم مضرّ، سواء بين مكوّنات وأحزاب السلطة أو مع إصلاحيين، غير استبعاد كلّ من هو خارج دائرة الإذعان، واعتباره يدعو إلى الفوضى أو يساند قوى الإرهاب.

إجمالاً، يجيء الحزب ضمن محاولةٍ لتجديد (وتفعيل) البناء السياسي القائم ليقوم بدوره في استقرار النظام، معتمداً على تصوّر ضرورة إعادة توزيع الأدوار والمواقع بين النُخَب، وتأميم السياسة بشكل كامل تحت مظلّتها، لذا يجري التركيز في جذب مجموعات المصالح التي تحوز مصادر قوة، وإعادة تنظيم صفوف أحزاب السلطة وغربلتها، مع استيعاب قوىً سياسيةٍ إصلاحية، والاتجاهات الثلاثة من العمل تصبّ في بناء تحالفٍ سياسي وانتخابي يوحي بتوسّع التحالف الحاكم عبر آليات التفاوض بشأن مساحات الوجود وطبيعة الدور، من دون تغيّرات جوهرية في السياسات. وهذا التصور سيشكّل الخطوط الرئيسة لعمل الحزب وأنشطته وعلاقاته مع القوى المختلفة مستقبلاً، مع تكرار تأكيد سياق الأزمة التي تستدعي التوحّد والعمل المشترك، وبثّ الثقة في قدرة النظام على الإصلاح وتصحيح المسار، وهي الدعاية الأساسية التي يستهدفها المؤسّسون، وتظلّ وهماً طالما بقيت أسس السلطوية قائمة.

D75BB17B-0520-4715-86EC-B6995DA95615
عصام شعبان

باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة القاهرة، أحد مؤسسي الجمعية الوطنية للتغيير، عضو المجلس الأعلى للثقافة لدورتين متتالتين، عضو شعبة العلوم الاجتماعية. أحد كتاب الرأى في صحيفة وموقع "العربي الجديد".يقول: "نفعل كما يفعل السجناء، نربي الأمل".