حرية التعبير .. مجدداً

حرية التعبير .. مجدداً

24 يناير 2021
+ الخط -

اعتذرت صحيفة لوموند الفرنسية عن نشرها رسما ساخرا، لأنه، حسب تعبير بيان الصحيفة، "ربما خدش مشاعر من يعاني من سفاح الأقارب". وفي المقابل، لم يتم رفعه من موقع الصحيفة، لكن الرسام المعني استقال احتجاجاً على الاعتذار الذي لا يجد له مبرّراً. انفجر الوعي على مسألة سفاح الأقارب أخيرا، بعد أن نشرت كاميل كوشنير كتابا تروي فيه استغلال زوج والدتها، شقيقها جنسياً منذ ثلاثين عاماً. الرجل المُغْتَصِب هذا يعتبر من أشهر القانونيين الفرنسيين على قيد الحياة، وله عشرات المؤلفات المرجعية في القانون الدستوري، ولم يمر طالب في كلية القانون، أو في مدرسة العلوم السياسية، لم يقرأ له، ويستند إلى نصوصه مراجع أساسية وذات مصداقية علمية لا غبار عليها. 
أوليفيه دوهاميل هو من جيل ثورة مايو 1968، والتي نما على هامش مطالبها التحرّرية التي عكست تبرّم الجيل الشاب من قيود الطبقة السياسية التقليدية، ومن المحظورات المقيدة للتعبير، تيار تطرّف في رغبته في تحرير العلاقات مهما تناقضت مع الأطر الأخلاقية. وفي سنة 1977، وقّع رموز في هذه الثورة، أضحوا شخوصاً مؤثرة في مقدمة الطبقة السياسية أو الفكرية الجديدة، كجان بول سارتر وجاك لانغ وسيمون دو بوفوار وميشيل فوكو ورولان بارت، عريضةً تطالب بإباحة العلاقات الجنسية مع القُصّر. كما كان من الموقعين برنار كوشنير، والد الشاب الذي وقع الاعتداء عليه جنسيا. واليوم، ومع انفجار فضيحة الاعتداء هذه، اعتذر رئيس معهد العالم العربي ووزير الثقافة الأسبق والأشهر في تاريخ الجمهورية الخامسة، جاك لانغ، عن توقيعه هذه العريضة التي اعتبرها جزءاً من ريحٍ انفلاتيةٍ رافقت الشعور التحرّري في زمنها. ودان بشديد العبارات ما اقترفه دوهاميل.

حدث يبعث على النقاش عموماً، ولكنه في الحالة الفرنسية بالذات يبعث على التساؤل بشأن المعايير وازدواجيتها وانفلاتها من حيّز المنطق

وعلى هامش الجدل القائم بعد إثارة هذه الفضيحة، اقترف رسام "لوموند" رسماً ينتمي الى مدرسة النص أكثر من مدرسة الترميز، وحيث إن شخوصه هي بطارق تتناول الشأن العام بسخرية مرّة يومياً. وفي جملةٍ معقدةٍ تُشير إلى سفاح الأقارب، أراد أن يسخر من مرتكب الواقعة وممن دافع عنه. وقد قرأ بعضهم جهلا هذا التعليق وكأنه دفاع عن المعتدي، فارتأت الصحيفة، وبعد هيجان بعض صفحات وسائل التواصل الاجتماعي عن جهل، أن تعتذر. 
نحن إذاً أمام اعتذارٍ مكتوب في موقع صحيفة لوموند من مديرتها تعبر من خلاله عن أسفها لنشر الرسم حيث "يمكن أن يفسّره بعضهم استهانة بمشاعرهم وبقضاياهم وبمعاناتهم". موقف ربما وجد من يدافع عنه من التقليديين الذين يعتبرون أن الرسم الساخر نص تأسيسي لمدرسة فكرية قد تؤثر في توجهات المجتمع. في المقابل، مفاجئ أن تكون قراءة إدارة صحيفة جادّة ومؤثرة بهذه المحدودية أو أن تكون خاضعة لرعب الإرهاب الافتراضي التي ما فتئت تبثه وسائل التواصل الاجتماعي. 
حدث يبعث على النقاش عموماً، ولكنه في الحالة الفرنسية بالذات يبعث على التساؤل بشأن المعايير وازدواجيتها وانفلاتها من حيّز المنطق، فباريس عرفت جريمة شنعاء ارتكبها إرهابيون بحق رسّامي صحيفة شارلي إبدو الأسبوعية ومحرّريها قبل نحو سبع سنوات، وقد التأمت محاكمة مرتبطة بهذه الواقعة الوحشية قبل أسابيع قليلة. وبمناسبة انعقاد جلسات المحكمة، أعادت الصحيفة الساخرة نشر الرسوم التي ارتكب المجرمون المقتلة بحجتها، وهي تسخر من نبي المسلمين محمد. أثارت إعادة النشر هذه تحفّظات بعض ممثلي المسلمين في فرنسا، كما في العالم، واحتجاجاتهم.

غصّت وسائل الإعلام كما المنابر السياسية بالمدافعين عن حرية التعبير وعن حرية الرسم الساخر

وبالطبع، استغل الإرهابيون هذا الحدث للعودة إلى ممارسة القتل والترويع بحجة الذود عن الدين. إثر ذلك، غصّت وسائل الإعلام كما المنابر السياسية بالمدافعين عن حرية التعبير وعن حرية الرسم الساخر. ووصل الأمر بالرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، إلى تبنّي الرسم الساخر بالمطلق، وليس تحديداً ما نشرته "شارلي إبدو"، واعتباره من أركان حرية التعبير المقدّسة التي سيسعى إلى الحفاظ عليها، وحمايتها من الظلاميين ومن المعتدين. 
رسم تافه فنياً وتعبيرياً، لا يرسم حتى ابتسامة خجولة، وفيه إساءة حقيقية لمشاعر ملايين من المسلمين وسواهم، وحتى لمن لديه حد أدنى من الذائقة الفنية، وتمت إعادة نشره في تحدٍّ صارخ لمكون بشري كبير، لا مجال، في هذا الحيّز الضيق، لاستعراض الأسباب السوسيولوجية المركبة لتقديسه الرمز الديني. التضامن مع حرية التعبير في المطلق لا خلاف عليه مبدئياً، خصوصاً  مع الأخذ بالاعتبار ما ارتكب بحق الرسامين والناشرين من جريمة قام بها معتوهون ظلاميون. إلا أن تطور الأمر من تضامن مع مبدأ حرية التعبير، وصولاً إلى ترسيخ توجه عام يتأثر بطريقة متفجرة بالخطاب المعادي للإسلام، يشكل مأزقاً معيارياً لمن يتشبث به انتقائياً. 
التساؤل الذي يمكن أن يجلب لصاحبه الإدانة التي تحصد إعجاب أصحاب الرأي السائد: وماذا إذا اعتذر أصحاب الرسوم المسيئة لمخيال الملايين عن نبيّهم، معتبرين أنها ربما "يمكن أن يفسرها بعضهم استهانة بمشاعرهم"، كما اعتذرت مديرة صحيفة لوموند عن نشر رسم لم تفهم حمولته، وخشيت أن يُسبب لها ولمؤسستها عواقب محدودة لدى عشراتٍ ممن لم يفهموا الرسم مثلها؟