حرب المعجزات الفلسطينية الثلاث

حرب المعجزات الفلسطينية الثلاث

25 مايو 2021
+ الخط -

في معركة قصيرة وثقيلة، متنوعة الأدوات، ومتعدّدة الجبهات، خاضها الشعب الفلسطيني ببسالةٍ عز نظيرها، وربحها ربحاً سياسياً وأخلاقياً لا مراء فيه، تحقّقت، في زمن انتهت فيه الخوارق، ثلاث معجزاتٍ دفعة واحدة، كل واحدة منها (بمعايير الصراع المختل) كانت ترقى، حتى ليلة البارحة، إلى ضفاف المستحيل، وتخلّقت، كلٌّ على حدة، من نقطةٍ تقع فوق الصفر بقليل، الأمر الذي كوّن لحظة تأسيسية فلسطينية جديدة، وأنتج مشهداً نوعياً فارقاً، فاضت به، اعتزازاً، نفوس قومٍ تكالبت عليهم الأقدار العمياء، وخُسفت بهم الأرض خسفاً، ثم تُركوا وحدهم في عراءٍ بارد، عقوداً طوال.
المعجزة الأولى تجلّت كما تتجلى الشمس في رابعة النهار، من خلال تلك الصواريخ، التي انطلقت من غزّة المحاصرة، لتطاول أرض البرتقال الحزين، وتضرب تل أبيب، وتنال من رمزية هذه المدينة النيويوركية الباذخة، وتضرب معها الغطرسة والحسّ بالتفوق والامتلاء، في سابقةٍ لم يجرؤ عليها سوى العراق، ذات مرّة قبل عقود ثلاثة، الأمر الذي فتح عيون المحتلّين على حقيقة صادمة لم تكن في الحسبان، وأوجد معطىً لا يمكن إسقاطه من الحساب، وساهم فوق ذلك، أكثر من أي مرة سابقة، في كيّ وعي من سبق لهم أن مارسوا سلسلة لا نهاية لها من عمليات كيّ الوعي الفلسطيني بالحديد والنار.
ولكن هذه المعجزة لم تجر هنا في هذا السياق، ولم تحدُث على خلفية ما سبق ذكره آنفاً من معطيات، وإنما وقعت في مكان آخر، في مطرحٍ مرسوم على هيئة سجنٍ مقام في الهواء الطلق، في رقعةٍ من الأرض محاصرة برّاً وبحراً، نقول معجزةً تحققت على ايدٍي فتيةٍ من جيل أحفاد أولئك اللاجئين الأميين الفقراء، الذين وصلوا إلى غزّة حفاة وشبه عراة، فأعادوا تأسيس حياتهم، تعلموا وتطوّروا، واستبدلوا البؤس بالبأس، وبيوت الصفيح بالعمارات الشاهقة والأبراج، وملأوا أزقة مخيماتهم بالبنات والأولاد، وها هم اليوم يثأرون لمهانة اللجوء والاقتلاع، ويصنعون هذه المعجزة عن جدارة واستحقاق.
المعجزة الثانية تمثلت في كسر ما يسميها عزمي بشارة "أسرلة الوعي"، أي تغييب الوعي بالذات الوطنية، وإحلال بدلاً منه هوية هجينة ومستلبة، تنطوي على قبولٍ ضمني بالدونية في تراتب درجات المواطنة والحقوق الأساسية، حيث شكّلت مشاهد نصرة عرب 48 القدس وغزّة، من جانب جيلٍ شابٍّ أعاد اكتشاف نفسه، وتعريف هويته القومية، ناهيك عن كسر حاجز الخوف، ومعه حاجز الخط الأخضر، نقول شكلت تلك المشاهد لحظة تأسيسية ثانية، وأدخلت عاملاً مسرعاً لعملية التحوّل البطيء، أو قل معجزة أخرى تحققت بعد سبعين سنة من سياسة التمييز والتجهيل وكسر الروح.
لمعرفة مدى أهمية ما حدث في المدن الساحلية الفلسطينية، ينبغي معرفة ما كان عليه حال أجداد هؤلاء الأحفاد بعد عام النكبة، فقد روى لكاتب هذه الأسطر، بحسرة شديدة، أحد شهود تلك المرحلة الكئيبة، أن الأمن الإسرائيلي كان يُجبر ذلك الحطام البشري، ممن تبقوا في ديارهم، على إقامة الاحتفالات وعقد الدبكات في مناسبات "استقلال" الدولة العبرية، وكان يُطلب منهم الرقص هاتفين "محمد مات وخلّف بنات"، الأمر الذي يُبرز شدّة مضاء هذا التحوّل، عندما يرى المرء مشهد تشييع شابٍّ من مدينة أم الفحم، ضم نحو مائة ألف مواطن عربي، ثلثهم من النساء، وهم يرفعون آلاف الأعلام الفلسطينية، ويهتفون هذه المرّة للقدس وغزّة وفلسطين.
الثالثة وقعت في خضم هذه المعركة الاستثنائية، حين اتّحد الشعب الفلسطيني المشتّت، والمحاصر داخل معازل عدّة، في معركة الدفاع عن الأقصى وحي الشيخ جرّاح، بشجاعةٍ حطّمت الحواجز والخط الأخضر، وجدار الفصل، الأمر الذي أقام الدنيا على رأس احتلال عنصري بغيض، في مشهدٍ بدا، هو الآخر، إعجازياً، بمعيار حالة الانقسام المديدة، وفوق ذلك أحيا القضية المطعونة بمظاهر التطبيع المجاني الأخيرة، ووضع هذا الشعب المتمسّك بحقه قي الحرية والاستقلال، على مشارف مرحلةٍ جديدة، ستكون، بالضرورة الموضوعية، مختلفةً عما سبقها من مراحل كسيفة، لعل في مقدمتها تجديد النظام السياسي، وإعادة بناء الحركة الوطنية الفلسطينية.
ومع أن هناك منجزات تعدّ ولا تُحصى لمعركة سيف القدس، وهناك تداعيات إيجابية معقودة على حُسن إدارة المواجهة الطويلة، وأهمها تحويل هذا النصر النادر إلى منجز سياسي، إلا أن جلاء فحوى المعجزات الثلاث المذكورة آنفاً يكفي وحده للإمساك بهذه اللحظة الفلسطينية الواعدة، وتجنّب إضاعتها في إطار المنافسات الداخلية، والحسابات الجزئية الصغيرة.

45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي