حربٌ على الخطّّة المصرية العربية

22 مارس 2025
+ الخط -

قبل أن يستأنف نتنياهو خياره المفضّل بمواصلة حرب الإبادة على غزّة، كانت المفاوضات الأميركية غير المباشرة مع حركة حماس في الدوحة تدور حول تمديد الهدنة عبر تمديد المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار، الذي بدأ سريانه في 19 يناير/ كانون الثاني 2025، وقد وقع خلاف حول عدد من يمكن الإفراج عنهم من أميركيين وإسرائيليين، ومن أحياء وموتى، في مقابل أعداد من الأسرى الفلسطينيين. وخلال ذلك، لم يجب المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف ولا مرّةً عن السؤال المطروح: لماذا القفز عن الاتفاق الأصلي الذي ساهمت واشنطن في فرضه، وبجهود شخصية من ويتكوف نفسه، وما الحكمة (وما المنطق) في تشجيع إدارة ترامب نتنياهو على التنصّل ممّا هو متّفق عليه؟

لا يعفي هذا "حماس" أنها قد تجاهلت طبيعة المعادلة التي اصطدمت بها، والقائمة على الاختيار بين ما هو سيئ وما هو أسوأ، فالسيئ تمديد المرحلة الأولى، والممانعة الإسرائيلية في الانتقال إلى المرحلة الثانية، والأسوأ استغلال نتنياهو هذا الخلاف لمواصلة حربه على أبناء غزّة، ومن ضمنهم "حماس"، فجيش الاحتلال يشنّ حرباً على الكتلة البشرية في قطاع غزّة، وقد أودى هذا التوحّش المتجدّد بمئات الضحايا جُلّهم من الأطفال والنساء في يومين. وكالعادة، لا تلاحظ واشنطن أبداً فقدان الضحايا غير الإسرائيليين أرواحهم.

وللإحاطة بجوانب المشهد، انبرى المبعوث الأميركي (قبل نحو أسبوعين) للقيام بجهوده وسط أجواء سياسية متوتّرة في واشنطن حيال التطوّرات "غير المواتية" في الشرق الأوسط، فقد تبنّى العالم العربي والإسلامي الخطّة المصرية لليوم التالي، ولإعادة إعمار القطاع، وقد لقيت الخطّة قبولاً دولياً متنامياً، وهو ما أربك البيت الأبيض ومجمل الإدارة، كما كشفت ذلك التصريحات المتناقضة لأركان الإدارة وفي مقدّمهم ترامب نفسه، إذ كان من شأن المضي في اتفاق وقف إطلاق النار، بمرحلتيه الثانية والثالثة، تحقيق هدوء مستدام، وفتح الأبواب أمام تنفيذ الخطّة العربية. وهنا وجدت الإدارة أن مماشاة نتنياهو برفضه الانتقال إلى المرحلة الثانية يمثّل في هذه المرحلة أفضل وسيلة لإبعاد شبح الخطّة المصرية العربية، حتى لو أدّى الأمر إلى إغراق القطاع المنكوب بمزيد من الدماء، فاعتصمت الإدارة بصمت المتواطئ الثلاثاء الماضي، مع بدء ورود الأنباء عن سقوط مئات الضحايا. وعلى نهج الرئيس السابق جو بايدن في تحميل المسؤولية كلّ مرّة، وبصورة أوتوماتيكية، لحركة حماس، فعلت ادارة ترامب الشيء نفسه، فحمّلت الحركة مسؤولية التزامها باتفاق وقف إطلاق النار. فيما جاء شنّ الحرب على اليمن والحوثيين لخدمة هذا الغرض، وهو منع أي إسناد من أيّ مصدر لغزّة، فهذا القطاع يحدّد مصيره أشخاص مثل بنيامين نتنياهو ويسرائيل كاتس وبتسلئيل سموتريتش، دون سواهم، مع حظر دخول المنظّمات الأممية والحقوقية ومراسلي وسائل الإعلام إلى القطاع.

يتجلّى استخفاف ترامب بالعالم العربي بأوضح صوره، رغم كلّ ما بدا عربياً من ترحيبٍ بصعوده مجدّداً الى البيت الأبيض

بهذا جاء الردّ على قمّة القاهرة الطارئة، وعلى الخطّة العربية التي انبثقت من هذه القمّة عبر تواطؤ مكشوف بين نتنياهو وترامب، الذي يولي اهتمامه لإيقاف الحرب على أوكرانيا وفق المنظور الروسي، فيقتطع فلاديمير بوتين ما يشاء من أراض أوكرانية، ويستولي ترامب على حصّة كبيرة من المعادن النادرة، وبهذا يتحقّق السلام. أمّا مشكلة غزّة، فإنّها "صغيرة" يتولّاها نتنياهو، وإلى أن يأتي وقتٌ لإشراك دول عربية معتدلة في فرض ترتيبات الأمن، على النحو الذي يتم الاتفاق بشأنه بين واشنطن وتلّ أبيب.

وبهذا، يتجلّى استخفاف ترامب بالعالم العربي بأوضح صوره، رغم كلّ ما بدا عربياً من ترحيبٍ بصعوده مجدّداً الى البيت الأبيض. ونستذكر بالمناسبة أن ترامب شمل مواطني خمس دول عربية بمنع السفر إلى أميركا، من دون بروز أيّ ردّ فعل عربي على هذا الإجراء التمييزي. وهذه الدول هي ليبيا والسودان وسورية واليمن والصومال. كما سبق له أن أصدر أمراً تنفيذياً بمكافحة معاداة السامية في الجامعات وغيرها، وأمراً ثانياً بمنع التمييز ضدّ المسيحية، لكنّه استثنى التمييز ضدّ الديانة التوحيدية الثالثة، وهي الإسلام، من أوامره التنفيذية، ومن غير أن يتحرّك العالم الإسلامي لإدانة هذا الاستثناء الديني المعيب في القوانين الأميركية المستجدّة. والآن، تُظهر هذه الإدارة قدراً كبيراً من الاستخفاف بالخطّة العربية المتعلّقة بغزّة، مرتئيةً أن تجديد الحرب الوحشية على القطاع يمثّل ردّاً مناسباً على الخطّة، من غير أن يتوقّف أركان إدارته عن التبشير بأن سيّد البيت الأبيض يتطلّع إلى سلام دائم في الشرق الأوسط. وعلى غرار ما واظب عليه بايدن، الذي كان يبدي على الدوام دعمه اللفظي حلّ الدولتَين، ودعمه الفعلي حرب الإبادة. ومن المتوقّع، في ضوء هذا الاستخفاف المتمادي، أن تتجاهل واشنطن النداء الصادر عن اجتماع جامعة الدول العربية الأربعاء الماضي، الذي دعا واشنطن إلى الضغط على تلّ أبيب لاحترام اتفاق وقف إطلاق النار والتقيد به.

الأمل أن يتوقّف العرب عن ادعاء العجز عن اتخاذ إجراء ضدّ تغوّل إسرائيل

ويسترعي الانتباه في تلك الأثناء أن اتصالات البيت الأبيض بالمسؤولين العرب تبدو شحيحةً وضعيفةً، فاللقاء الذي كان مقرّراً بين ترامب والرئيس المصري عبد الفتّاح السيسي يبدو مجمّداً إلى إشعار آخر، فيما يسعى ترامب إلى تأخير توجّهه إلى الرياض إلى أبعد أمد ممكن، وكذلك حال اللقاء الذي كان مقرّراً أن يجمع ترامب مع الرئيس التركي أردوغان، الذي تدعم بلاده بقوّة الموقف العربي. علماً أن التواطؤ مع تلّ أبيب في التنصّل من اتفاق وقف إطلاق النار يحمل تحدّياً للوساطة العربية الممثّلة بمصر وقطر، ويمثل خطوة انفراديةً من الوسيط الثالث، تطعن بمبدأ الوساطة الجماعية.

والأمل أن يستجيب العالم العربي لهذا التحدّي بما يتعدّى البيانات السياسية، والتوقّف عن ادعاء العجز عن اتخاذ أيّ إجراء ضدّ التغوّل الإسرائيلي بحقّ سورية ولبنان واليمن والضفة الغربية وقطاع غزّة، وذلك قبل أن تجتاح قوات إسرائيلية مزيداً من الأراضي العربية في حقبة ترامب، التي لم يمض عليها سوى شهرين.

محمود الريماوي
محمود الريماوي
قاص وروائي وكاتب سياسي من الأردن.