حديث الدولة الفلسطينية في رواية أخرى

24 سبتمبر 2025   |  آخر تحديث: 02:53 (توقيت القدس)
+ الخط -

لو كان الظرف غير هذا الذي نعيشه في المنطقة والعالم، لكان واجباً رمي قنطار من الكلام على طاولة النقاش الخاص بالدولة الفلسطينية التي صار عدد المعترفين بها 160 بلداً من أصل 193 هم أعضاء في الأمم المتحدة، بينهم أربعة من أصل خمسة دائمي العضوية في مجلس الأمن، وكبريات قوى العالم اقتصادياً وسياسياً ما عدا اليابان وألمانيا. لكنّ حديث الدولة في وادٍ والمذبحة في آخر. الدولة في الخيال، بينما تحوُّل الإقليم إلى منطقة نفوذ إسرائيلية هو الواقع الوحيد. طموح الدولة والحديث بشأنها ينتميان إلى عالمٍ كان فيه قانون دولي وعلاقات دولية ومفاهيم حق تقرير مصير ومفاوضات ومساومات. أما في زمننا هذا، زمن السفالة والوضاعة الترامبيتين الراعيتين لإسرائيل بوصفها دولة إبادة، فيبدو الكلام عن الدولة الفلسطينية ترفاً لا يملكه أحد وسباحة في محيط من الأوهام فوق كابوس لا شفاء منه إلا بوقف إبادة غزة، وحينها فقط ربما أمكن استئناف الكلام عن حلّ سياسي ما أو عن استحالته.

في رواية أخرى وفي زمن مختلف، كان يمكن الإصرار على أن الدولة الواحدة الديمقراطية لكل مواطنيها على كل أرض فلسطين، مثلما حاججت أدبيات حزب التّجَمُّع الوطني الديمقراطي طويلاً، هو الحل الوحيد العملي والعادل. ذلك أنه منذ 1967، راحت المقومات النظرية للدولة الفلسطينية تتلاشى حتى تبخرت كلياً اليوم. حتى الدولة التي تعترف بها 160 عاصمة حالياً، هي وفق وثيقة نيويورك التي أقرّت قبل أيام في الجمعية العامة للأمم المتحدة منزوعة السلاح، وفيها كثيرٌ من شواهد الانتقاص من مواصفات الدولة المستقلة حقاً. قبل وثيقة نيويورك وبعدها، كان محسوماً أن دولة فلسطينية ما، حتى في عزّ الأمل الذي أثارته اتفاقات أوسلو عند كثيرين، ستكون بلا جيشٍ فعلي، ومقطّعة الأوصال، لإسرائيل اليد الطولى في السماح لها بأن تكون دولة أو لا تكون. حتى في ظل هبوب رياح احتمالات السلام في مطلع التسعينيات، كانت الدولة الفلسطينية ستصير غير قابلة للحياة اقتصادياً ومائياً وأمنياً، فما بالك بالوضع اليوم حيث لم يعد هناك قطاع غزة ولا قدس عربية ولا فارق بين منطقة أ أو ب أو ج في الضفة الغربية وهي مستوطنة كبرى؟

ولكن، بما أن كل النقاش بشأن الدولة الفلسطينية طيران في عالم من الأحلام، فلتذهب الأحلام إلى أقصاها: حل الدولة الواحدة على كل أرض فلسطين التاريخية ليس مستحيلاً أكثر من استحالة حل الدولتين. وإن كان عبثياً الانشغال بحلم الدولة الفلسطينية هذه الأيام في عزّ الإبادة الجارية في غزّة، وتهويد ما صمد من وجود عربي في القدس، واستيطان الدونمات الباقية لأصحاب الأرض في الضفة الغربية، فإنه وجب التوقف عند إحدى المفارقات الخاصة بالدولة الفلسطينية، وبكل دولة لا تزال في حيّز الاحتمال والطموح. ففي العادة، يطمح شعبٌ ما إلى إقامة دولة، فلا يجد من يعترف بها. هكذا حصل مع الأكراد ومع قوميي كتالونيا واسكتلندا وأتراك قبرص. بين هذه الأمثلة الأربعة، وحدهم القبارصة الأتراك نالوا اعتراف دولة واحدة، ليست سوى تركيا بطبيعة الحال. أما في الحالة الفلسطينية، فالفضيحة هي بوزن اعتراف الغالبية الساحقة من الدول بدولة ترفض دولتان فقط إقامتها، أميركا وإسرائيل، وبالتالي فإنها لا تتأسس.

أما بعد، سيبقى اعتراف 160 بلداً بدولة فلسطينية خطوة رمزية دبلوماسية ضرورية في سياق تثبيت حقّ في قراراتٍ يمكن الاستفادة منها في زمن آخر قد يأتي بموازين قوى مختلفة، بأميركا مغايرة عن التي نعرفها وبإسرائيل غير إسبرطية. قرارات صحيحٌ أنها مجرّد حبر على ورق، إلا أن محوها عملية صعبة. وأفضل ما في موجة الاعتراف الحالية أنها ترسم الرابع من حزيران/ يونيو 1967 خطاً لحدود هذه الدولة المأمولة، ولولا ذلك لكانت كارثة ترجمت نفسها باحتفال سلطة رام الله الكرتونية بتحولها بين ليلة وضحاها إلى دولةٍ نلعن ساعة ولادتها صبحاً ومساء.