حجاب السوريات ونقابهن... اجتماع الأضداد
(لؤي كيالي)
استيقظت دمشق في، 29 سبتمبر/ أيلول عام 1981، على حدثٍ جلل ترك أثراً عميقاً في ذاكرة سوريين كثيرين. مجموعاتٌ من المظلّيين والمظلّيات، معروفة باسم "دورية تشرين"، تجوّلت في شوارع دمشق، ونزعت حجاب النساء تحت التهديد والضرب والتعنيف. كانت هذه المجموعة تابعة لـ"سرايا الدفاع" التي أسّسها رفعت الأسد. شكّل ذلك اليوم المشؤوم انعطافةً في تاريخ سورية، إذ جسّد اعتداءً صارخاً على كرامات الناس ومعتقداتهم الدينية والروحية. كانت لهذه الممارسات انعكاسات عميقة، أدّت إلى شرخ مجتمعي وطائفي استُغل سياسياً بشكل سلبي للغاية، ليُضاف إلى سلسلة الشروخ والانقسامات التي عمل حافظ الأسد على تغذيتها لترسيخ سلطته الاستبدادية. في اليوم التالي للحادثة، خرج الأسد (الأب) بخطابٍ رسمي للسوريين، في محاولة لاحتواء الوضع الذي لم يكن مُجرَّد حادثة عابرة. خلال تلك الأحداث، وقعت مواجهات دامية، قُتل فيها ضابط كان يدافع عن زوجته التي حاولوا نزع حجابها، كما قُتِلت مظلّية ومرافقها. تعرّضت النساء للركل والدعس في الشوارع، فيما شهد سوق الحميدية مقاومةً شرسة من التجّار والأهالي الذين حملوا العصي لمنع المظلّيين والمظلّيات من دخول السوق.
لم تقتصر الحادثة على قلب دمشق، بل امتدّت إلى المدارس، فأُجبِرت الطالبات على نزع حجابهن عند أبوابها. تركت طالبات عديداتٌ التعليم إثر هذه الحملة، وحُرمن من حقّهن في الدراسة، مما دفع بعضهن إلى البقاء في المنازل، كما طاولت عمليات نزع الحجاب النساء في مراكز تجارية مثل الصالحية وأحياء دمشق المُحافِظة الأخرى، لتُرسّخ هذه الحملة جرحاً عميقاً في الذاكرة الجماعية للسوريين. تراجعت المظلّيات والمظلّيون، ولم يتمكّنوا من دخول سوق الحميدية، فقد أدرك حافظ الأسد بدهائه أنّه تجاوز الخطوط الحمر التي حرص على رسمها بدقّة طوال سنوات حكمه رجلاً يوظّف الدين بالطريقة التي تخدم أهدافه السياسية. في خطابه الذي ألقاه لاحقاً، برّر التصرّفات الشنيعة بأنها نتيجة "اندفاع بعض المتحمّسات لقيم الثورة"، من دون أن يقدّم اعتذاراً رسمياً للشعب السوري. واستمرّ هذا النمط طوال حياته وحياة ابنه الذي خلفه في الحُكم، إذ لم يكن الاعتذار من أدوات النظام في التعامل مع الشعب.
الصراع على أجساد النساء يُؤسّس لإعادة إنتاج علاقات الهيمنة والقمع، فتُستغل الأجساد رمزاً مقدّساً لمواقع السلطة
في تلك الفترة، كان الأسد يخوض صراعاً داخلياً أدارَه بقبضةٍ من حديد، مستخدماً السلاح وسفك الدماء وسيلتين لفرض السيطرة. أراد أن يظهر للعالم بوجه "تقدّمي" و"ديمقراطي" مدافعاً عن "حقوق النساء في حرّياتهن الشخصية". إلّا أنّ قراره بمنع الحجاب في المدارس، الذي بقي سارياً حتى عام 2001، كان دليلاً على استمرارية السياسات الاستبدادية حتى بعد تسلّم ابنه السلطة، كانت تلك الأحداث بمثابة صاعقٍ أشعل الانشقاقات داخل المجتمع السوري، ليس على المستوى السياسي فقط، بل أيضاً على المستوى الطائفي، فقد كان أغلب المشاركين في "دورية تشرين" ينتمون إلى العلويين، ما عزّز الشعور الطائفي بأنّ الأقليات تذل الأكثرية السُنّية. لاحقاً ساهمت هيكلة قوى الأمن والجيش والتفاوت الاقتصادي والاجتماعي بين الطوائف في تعزيز هذه الصورة، رغم وجود أفراد من طوائف أخرى ضمن تلك المجموعات.
في دمشق، المدينة التي كانت تنهار تحت بطش الأسد (الأب)، كانت النساء يُعتبَرن أهدافاً واضحةً لهذه السياسات. أُخبِرت المظلّيات بأن كلّ محجّبة هي من جماعة الإخوان المسلمين، أعداء الثورة، وأن "عقابهن" يبدأ بخلع الحجاب. وأدّت هذه الحملة العنيفة إلى ردّات فعل متباينة، لكنّها أسهمت بوضوح في تعزيز التديّن، والتشدّد، ردَّة فعل على الإذلال والقمع. لاحقاً، أُقنع الأسد بافتتاح معاهد لتعليم القرآن ومساجد لامتصاص الغضب الشعبي السُنّي. يُقال إن فترة حكم حافظ الأسد شهدت بناء مساجد عديدة في دمشق، أكثر من أيّ فترة أخرى في تاريخ المدينة. ورغم أن هذا يبقى محلّ نقاش، إلا أن الحقائق تفيد بأنّ ذلك كان جزءاً من استراتيجية الأسد لتوظيف المجموعات الإسلامية، ومن ثمّ الجهادية، أداةً جيوسياسية لبسط نفوذه في الداخل والخارج. كانت هذه الحادثة مُجرَّد تفصيلٍ صغير ضمن الصورة الأوسع لسياسات الأسد، لكنّها لعبت دوراً كبيراً في تعميق الشرخ المجتمعي والطائفيّ الذي ما زال أثره قائماً.
في شهر أغسطس/ آب من عام 2012، عاد الشيخ الجليل أسامة الرفاعي إلى الشمال السوري، حيث ألقى خطبته الأولى التي أثارت جدلاً واسعاً. ركّز الشيخ في خطبته على انتقاد النساء اللواتي يروّجن ما وصفها بـ"الأفكار المضلّلة" عن حرّيات النساء والمعتقدات، وربط عمل النساء في مجالات التعليم وتوفير الطعام والتنمية في البيئات المحافظة التي تلتزم الحجاب وتعتمد الدين الإسلامي مصدراً للتشريع، بانتشار مفاهيم مغلوطة. كان لافتاً أن يُخصّص الشيخ، المعروف بمكانته الدينية واحترامه، خُطبته الأولى للحديث عن هذا الموضوع، ممّا أثار دهشة كثيرين. تعرّض الشيخ الرفاعي لانتقادات بسبب تصريحاته هذه، إذ استنكر كثيرون، رجالاً ونساءً، أن ينشغل في ظلّ الظروف الراهنة بهذا الملفّ تحديداً، خاصّة في وقت تعاني البلاد من حرب طاحنة. وبينما يستخدم الغرب قضايا حقوق النساء وسيلةً ضمن بروباغندا سياسية للتدخّل في شؤون المجتمعات الإسلامية، بدا خطاب الشيخ الرفاعي استجابةً مباشرةً لهذه الهجمات، لكنّه في الوقت ذاته أوقع الظلم على النساء العاملات في هذه البيئات المحطّمة. تلك النساء المحافظات اللواتي بقين في الخيام أو المنازل المدمّرة، واتُهِمن بالعمالة والخيانة، واجهن دعوات الشيخ لملاحقتهن ومحاربتهن، وهو موقف اعتبره بعضهم انحرافاً عن الأولويات الكُبرى للمعارضة في تلك المرحلة. حظي الشيخ الرفاعي، بشخصيته ذات المكانة الكبيرة في الطائفة السُنّية، بدعم شريحة من المجتمع، إلا أن كلماته فجّرت نقاشاً واسعاً حول حقوق النساء، ودورهن، وحدود النقد الذي يوجَّه إليهن في ظلّ ظروف القمع والحرب.
بين الحادثتَين كثيرٌ من الأحداث التي تُختصَر فيها جوانب لا تُقال صراحة. أخيراً، تصاعد الجدل داخل المجتمع السوري، سواء في الأرض أو في العالم الافتراضي، بعد ظهور دعوات لتغيير لباس النساء. خرج رجال دين مع جماعاتهم في الشوارع، موجّهين خطابات تهدف إلى "هداية" النساء ودعوتهن إلى ارتداء النقاب واللباس الشرعي المتمثّل بغطاءٍ كاملٍ للجسد. أُرفقت هذه الحملات بملصقات تصوّر امرأة مغطاةً بالكامل باللون الأسود، مع إظهار ظهرها فقط، وكأن سواد الملابس لم يكن كافياً من دون إخفاء ملامح الوجه تماماً. الحجاب، بشكله التقليدي، منتشرٌ في دمشق، وقد شهد انتشاره تزايداً ملحوظاً في السنوات الأخيرة. غير أن النقاش الحالي تجاوز الحجاب التقليدي ليدخل في جدلية أعمق حول اللباس الشرعي الكامل، ممّا أعاد إشعال الخلافات بين التيّارات الفكرية والاجتماعية داخل سورية، في وقت لا تزال البلاد تعيش ظروفاً إنسانيةً وسياسيةً شديدةَ التعقيد والخطورة. ليس من المستغرب أن يدعو الشيخ الجليل بلسانه وقلبه، من دون استخدام السلاح، وإن كانت دعوته قد توجّه أصحاب السلاح بطريقة أو بأخرى. ولا يمكن مقارنة كلماته بهذه الأفعال التي تُمارَس تحت تهديد السلاح، وهو أمر كان الديكتاتور وأخوه السفّاح بارعَين فيه، إذ استخدما قضايا النساء أداةً لترسيخ سلطتهما.
كانت أجساد النساء (ولا تزال) رمزاً قوياً للسيطرة والنفوذ، وأداة لإذلال العدو وإعلان هيمنة المنتصر
كانت أجساد النساء (ولا تزال) رمزاً قوياً للسيطرة والنفوذ، وأداة لإذلال العدو وإعلان هيمنة المنتصر. وليس هذا الأمر غريباً في مجتمعاتنا السورية والعربية والإسلامية، ولا حتى في الغرب. إن مطالبة النساء بالالتزام بنمط محدّد من اللباس، سواء كان الحجاب أو السفور، ليست مُجرَّد اعتداء على حرّية الاختيار، بل تعكس نزوعاً تاريخياً لدى السلطات والمجتمعات إلى التحكّم بالجسد الأنثوي رمزاً للسيطرة على الفضاء العام وترسيخ النفوذ. وبالتالي، فإن المطالبة بالمساواة في مجتمع عادل توجب رفض القوالب الثابتة والهُويَّات المسبقة، يكمن هنا جوهر القضية في تفكيك هذه الإملاءات (من أيّ طرف جاءت)، بوصفها أدواتِ هيمنةٍ تُفرّغ الحرّية الفردية من معناها. ويؤسّس هذا الصراع على أجساد النساء لإعادة إنتاج علاقات الهيمنة والقمع، فتُستغل الأجساد بوصفها رمزاً مقدساً لمواقع السلطة. وفي هذا السياق، الحجاب أو النقاب أو السفور لا تكون مُجرَّد خيارات شخصية، بل تُحمَّل بمعانٍ سياسية وأيديولوجية تُستخدم لفرض هُويَّة جمعية على حساب الفرد. ولعلّ أخطر ما في الأمر هو ادّعاء أن هذه التدخّلات تأتي باسم الفضيلة أو الحداثة، ولكنّ الحرّية الحقيقية هنا لا تعني حماية الفرد من العنف المادّي فحسب، بل أيضاً من "طغيان المجتمع"، الذي يُملي عليه ما يجب أن يكون عليه، ويمنعه من تحقيق ذاته وفق رؤيته الخاصّة. وبالنسبة للفرد الحرّ ليس من معنى كبير للتفريق إن كان الظلم قد جاء من مجتمع ظالم باسم الفضيلة والعادات، أم من طاغية ليس من همٍّ له سوى الحفاظ على السلطة. إن الاعتراف بالتنوع واحترام حرّيات الأفراد، خصوصاً النساء، في خياراتهن، هو السبيل الوحيد لتأسيس مجتمع تعدّدي وعادل. هذه ليست مُجرَّد قضية تخصّ النساء، بل هي معركة إنسانية تقف عند تقاطع الحرّية والكرامة والعدالة.
قوبلت هذه الدعوات بدعوات مقابلة تنادي بحرّية النساء في اختيار ملابسهن، في حين رأى آخرون أن الوقت غير مناسب لمثل هذه النقاشات، داعين إلى التركيز على العدالة والسياسة. لكن هذا الموقف ينطوي على نظرة دونية تجاه قضايا النساء، متناسياً أن الحقوق الفردية هي جزء من القضايا السياسية. الجدل الكبير الذي أثاره هذا الموضوع، رغم سخرية بعضٍ منه، يعكس حيوية المجتمع السوري ورغبته في التقدّم. وجود هذه النقاشات والمعارك الفكرية ليس مدعاةً للقلق، بل دليل على بدء تعافي المجتمع من الخراب. بدء النقاش والانفتاح على مختلف القضايا من دون خوف أو تردّد هو خطوة أساسية نحو بناء مجتمع أكثر عدلاً وتعددية. كلمة "النسوية" تُعدّ كريهةً لدى كثيرين، فترتبط في أذهانهم بقيمٍ غربية، أو بوصف النسويات "مسترجلات" أو "فلتانات"، بحسب تصوّراتهم. من اللافت أن بعض النساء أنفسهن يكرهن كلمة "نسوية"، لأنها ترتبط في وعيهن الجمعي بكلمات مثل "العلمانية" و"الديمقراطية"، التي تُصوَّر كأنها تحمل الشرور التي تهدّد استقرار الأسرة وسعادتها، وفق المزاج العام. لكن هذا الخلط بين المفاهيم والمصطلحات يعكس أزمةً أعمق، تتعلّق بتوظيف هذه الكلمات وإفراغها من معانيها الحقيقية.
ربّما يكون الوقت قد حان لكي يبدأ السوريون باستعادة معاني هذه المفاهيم الأساسية: حرّية النساء من قبضة النظام الأسدي، ومعنى العلمانية بعيداً عن استغلالها أداةً للتسلط، ومعنى الدين نفسه منظومةً روحيةً، وليس أداةَ قمعٍ أو هيمنة. السؤال الأكثر أهمية هنا: هل يمكن أن يجتمع النقيضان في سبب الكراهية تجاه النساء؟ أي تلك الرغبة في امتلاكهن أو التعامل معهن بشراً من الدرجة الثانية؟... قد تظهر هذه الكراهية أحياناً تحت ذرائعَ مثل "عدم الأهلية العقلية"، وأحياناً باسم الحماية والعطف، وأحياناً كثيرة بدافع الحُبّ والرحمة. الجماعات التي تريد نزع الحجاب عن النساء بالإكراه لا تختلف جوهرياً عن الجماعات التي تريد فرض الحجاب بالإكراه. نحن لا نتحدّث هنا عن الحجاب بمفهومه التقليدي، بل عن النقاب والخمار الكامل، كما ظهر في الملصق الأخير: ثياب سوداء تغطّي الجسد بالكامل، وكأنّ المرأة تُمحى من المشهد العام.
المعركة الحقيقية في الدستور والقوانين هي التي تنظم حياة الناس، وتضمن حقوقهم من دون تدخّل في خياراتهم الشخصية
هذا التناقض يعكس أزمةً حقيقيةً في فهم الحرّيات الفردية وحقوق النساء، إذ تتحوّل أجسادهن ساحةَ معركة بين طرفَين متناقضَين في الشكل، لكنّهما متشابهان في جوهر الهيمنة والرغبة في السيطرة. تلتقي الجماعتان في نقطة واحدة: القضاء على الحرّيات الفردية والشخصية للسوريين والسوريات. هذه القضية تتجاوز الصورة النمطية للمرأة المسلمة، إذ يتطلّب الأمر موقفاً واضحاً من المجتمع، مع رفض الصمت، وتكثيف الناشطية التي ترفض المساس بالحرّيات الشخصية. الحقوق لا تتعلّق بالنساء فقط، بل تشمل الرجال أيضاً، ويجب أن تكون مصونةً ومحدّدةً بوضوح في الدستور.
المعركة الحقيقية ليست بالحملات والشعارات فقط، بل بالدستور وبالقوانين التي تنظم حياة الناس، وتضمن لهم حقوقهم من دون تدخّل في خياراتهم الشخصية، سواء كانت المرأة تختار الحجاب أو النقاب والخمار، أو تمارس حرّيتها الشخصية في السفور. هذا النضال طويل الأمد، وهو مرتبط بشكل مباشر بالدستور الذي يجب أن يعكس تنوّع المجتمع السوري ويحترم حرّياته. إضافة إلى ذلك، لا يمكن تجاهل العامل الاقتصادي، الذي يشكلّ المحور الأهم في انتشال سورية من هاوية الجوع والفقر والحرب. هذه المعركة الاقتصادية تُعدّ مفصليةً في تحديد تاريخ ومستقبل سورية، إذ يتطلّب تحقيق كرامة الناس وصون معتقداتهم الدينية والفكرية استقراراً اقتصادياً، يضمن لهم الحياة الكريمة. من دون معالجة هذا الجانب الاقتصادي، ومن دون دستور يضمن الحرّيات الفردية، سنكون أمام استبداد وفاشية جديدة تُضاف إلى واقعنا القاتم، وتُفتح أبواب مستقبل أكثر قتامة. لذلك، وأكثر من أيّ وقت مضى، نحن بحاجة لرفع الصوت عالياً، ليس في قضية حجاب السوريات ونقابهن فقط، بل في القضايا التي تمسّ حرّيات الأفراد وحقوقهم.