حتى لا نستسلم لليأس
أسباب اليأس والإحباط عربياً أكثر من أسباب التفاؤل والأمل، فالأولى تكاد تدمغ الثانية. الأدهى أننا لا نلمس إرهاصات انبعاث عربي جديد ينفض عن كاهليه أثقال المهانة والانكسار والهزيمة. بل إننا لا نلحظ حتى إدراكاً جمعياً لعمق الكارثة التي نحن فيها لابثون، وكأنّ فينا من يعجبه قعر القاع، أو أنه اعتاده، أو أنه منوطة به مهمّة شدّنا دوماً إلى أسفله، حتى لا نتسلّق حيطانه الملساء. ومع ذلك، اليأس والاستسلام مناقضان للغريزة الإنسانية بعمومها، وغريزة أيّ كائن حيٍّ، إذ جُبل الأحياء على التعلّق بالأمل، فترى الغريق يكافح من أجل النجاة، حتى يغلبه الموج وتهمد أنفاسه. تلك غريزة الحياة والبقاء، وهي تشترط السعي في سبيل تحسين شروط الواقع وتأمين مستقبل أفضل، أكثر سعة وأكثر دعة. لكن ذلك يتطلّب إدراكاً لحجم الورطة التي نحن فيها قابعون، ومستوى التحدّيات الجسام التي نحن بصددها، ثمَّ الإمكانات التي بين أيدينا، وفضاء الإمكان والآفاق المتاحة أمامنا، إن توافرت القيادة السليمة، وأُحسن التدبير والتخطيط، مترافقاً ذلك كلّه مع التنفيذ الواعي والفعال.
أسهل المهمّات في هذا السياق هي تفصيل أزماتنا وتحدّياتنا ومصائبنا وتفكيكها. نظرة متأنية وفاحصة لواقع العرب، وعلى المستويات كلّها، ستعود إلينا بخيبات وحسرات يستحيل حصرها. مثلاً، هناك التفكّك التضاديّ في المنظومة العربية، بحيث لا يكاد العرب يجمعون على مسألة واحدة، لا دينياً ولا ثقافياً ولا سياسياً ولا اقتصادياً ولا استراتيجياً. نقول إن الدين يوحّدنا ويوطّد عروتنا، سواء عَقديّاً أم ثقافيّاً، حتى في حالة غير المسلمين، إذ إنهم جزء من منظومة الإسلام الحضارية، لكنّنا لا نتمثل أمره في الأخوة التي يفترضها والتماسك المبني عليها. تشتكي أعضاء كثيرة في الجسد الواحد، فلا تتداعى لها باقي الأعضاء بالسهر والحمّى. نزعم أن لغة الضاد تجمع غالبنا، وأن المصير واحد ومشترك، لكن واقعنا غير ذلك، إذ إننا شذَر مذَر، والعنصرية والهُويَّات الفرعية تنخرنا. نرى أرضنا مستباحةً من أعداء خارجيين، يسفكون دماءنا وينهبون ثرواتنا ويزرعون بيننا الفتن والخلافات، وبعضنا متابع لهم ومتواطئ معهم. في غالب بلاد العرب ثمَّة ترهّل إداري وتخلّف تعليمي، وبنى تحتية منهارة، وهي تُحكَم بمنطق الأسياد والعبيد. أكثر بلادنا تقبع تحت نير أنظمة طغيان تنهب اقتصاداتها وتقمع شعوبها. ومن أسف! وجرّاء ذلك، تحوّل كثير من أبناء الأمّة العربية تائهين مشغولين بتأمين لقمة عيش مُغمَّسةٍ بالذلّ والهوان والشقاء، ومن ثمّ لا يصبح لديهم وقت للتفكير في الأسباب التي أوصلتهم إلى هذا الدرك الأسفل، ولا حتى للتعاضد مع جراحات أمّتهم النازفة في فلسطين وسورية والسودان... والقائمة تطول.
لدينا إمكانات عربية إنسانية واقتصادية واستراتيجية هائلة، فألم يحن بعد أوان صياغة مشروع عربي ينتشلنا من هذا العار الذي نحن فيه؟
الواقع الآسن السابق، عربيّاً، غيضٌ من فيض، وهو قاتم ومُحبِط، لكن القبول به والاستسلام له أخطر منه، إذ إنه يعني النهاية بالنسبة إلينا، واندثارنا عقوداً وأجيالاً قادمة. هنا لا بدّ من العودة إلى مفهوم الأمل، لكن الأمل الإيجابي والمشروع هو القائم على استيعاب كامل وعميق للتحدّيات الداخلية والخارجية التي تواجهنا، وكذلك نقاط ضعفنا الذاتي ونقاط قوتنا، ونوعية الفرص المتاحة أمامنا، وكيف نبني استراتيجيات خروج من مآزقنا وكيف نُنفّذها. بغير ذلك، يكون التعلّق بالأمل مندرجاً في سياق الأوهام لا الإمكان. إن الركون إلى "الحتميات" الدينية والتاريخية حول الانبعاث العربي والإسلامي، من دون العمل على تحقيقها وإنجازها، هو خداع للذات. وكما أن اليأس مرفوض، فإن الغشّ مرفوض، وهو وصفة لتأبيد الانكسار والبؤس.
تموج المنطقة العربية والعالم اليوم بتغيّرات جيوسياسية جوهرية وبنيوية، تفتح أمامنا عرباً، آفاقاً واسعة، كما تفرض علينا تحدّيات. يمضي الرئيس الأميركي دونالد ترامب في تفكيك منظومة "العالم الحرّ" والعولمة الاقتصادية، اللتين تتربّع بلاده على عرشيهما، عبر فرض تعرفات جمركية شملت الحلفاء كما الخصوم. من كان يتصوّر أن تنسّق الصين مع اليابان وكوريا الجنوبية للردّ على التعرفات الجمركية الأميركية ضدّهم. على مدى عقود، استظلّت كل من اليابان وكوريا الجنوبية بالمظلّة العسكرية الأميركية لحمايتهما من الصين، لكنهما الآن متشكّكتان باستمرار ذلك، خصوصاً وهما يتابعان تفكيك ترامب لحلف شمال الأطلسي (ناتو) عبر البوابة الأوكرانية.
في منطقتنا، انكفأ التهديد الإيراني، الذي ظلّت تتذرّع به أنظمة عربية كثيرة لحرف بوصلة العداء عن إسرائيل، واستمرار الرضوخ للهيمنة الأميركية. وتستمر إسرائيل في عدوانها على قطاع غزّة والضفة الغربية وسورية ولبنان واليمن، وتهدّد السلامة الإقليمية لكلّ من مصر والأردن، بل وحتى بعض دول الخليج، عبر مطالبتها بتحمّل كلفة تهجير الفلسطينيين وتوطينهم خارج أرضهم. وفي منطقتنا كذلك، ثمَّة صمود أسطوري يسطّره قطاع غزّة، وثمَّة ساحة الإسناد اليمنية، وهناك التغيير الذي جرى في سورية وتحاول إسرائيل إجهاضه. وفوق هذا وذاك، هناك إمكانات عربية إنسانية واقتصادية واستراتيجية هائلة. ترى، ألم يحن بعد أوان صياغة مشروع عربي ينتشلنا من هذا العار الذي نحن فيه؟