حتى لا نؤسّس لمكارثية ما بعد الأسد
من قال إن الكتابة عمل ترفيهي لا ينطوي على محاذير جمَّة؟ وإن التطرّق إلى مواضيع بعينها قد لا يقلّ خطورة عن عبور حقول الألغام؟ تستطيع مقالة الرأي أن تكون "حصيفةً" في اختيار مواضيعها، فتتجنّب الإشكالي، وتلوذ بأمان ما هو رائج، أو على الأقل الأكثر قبولاً، مع الوقت تصبح منشوراً سياحياً، وربما دبلوماسياً، أو أي شيء آخر، غير مقالة الرأي السياسي.
ليس من مهام مقالة الرأي أن تُرَوِّج رأياً سياسيّاً معيناً، وإلا أصبحت نشرةً سياسيةً على طريقة الأحزاب العقائدية، فحسْبُها أن تعرض الواقع كما هو، وإن كان من خلال رؤية كاتبها، أما الحيادية فمقبولة لأنها من لوازم التحليل السياسي، على ألا تنتج مقالةً "سويسرية" بلا لون ولا طعم ولا رائحة، أو أن يكون نضال أفكارها على طريقة منظومة عدم الانحياز...!، فمن البديهي انحياز المقالة إلى وجهة نظر كاتبها، التي قد لا تحظى وقت النشر بشعبية القبول، ما سَيُعَرِّضُها لانتقادات تزداد حدتها، مع تصاعد مَدٍّ مكارثيٍ يحاول تثبيت أقدامه.
تستدعي الأحداث الكبرى ظواهر كبرى، وليست المكارثية استثناءً، فقد تحوّلت من هَوَس مكافحة الشيوعية في الولايات المتحدة، إلى كابوسٍ مرعب يتناول الأفكار والفنون والآداب، زادت في حدّته الحرب الباردة، التي رسمت خواتيم الحرب العالمية الثانية مداراتها، وإذا كان المجتمع الأميركي قد تمكّن لاحقاً من استئصال شأفة المكارثية، فإنها باقيةٌ على امتداد المعمورة كبركانٍ خامد، توقظه وتعيد تفعيله أحداث كبرى، خصوصاً إذا استدعت مواقف مختلفة، وأحياناً متناقضة، من الناس عموماً، ومقالات الرأي السياسي خصوصاً، في أي زمانٍ ومكان، لا حَصَانة منها لأحد.
ليس من المصادفة أن القضايا الوطنية هي الأكثر استدعاءً للفكر المكارثي، ففي النهاية كان جوزيف مكارثي أميركياً وطنياً (patriotic)، ولكن على طريقته، بل تزداد موجة المكارثية حدّةً كلما كانت أكثر تبنّياً لقضايا تمسّ الأمة في صميم وجدانها الوطني، الأمر الذي رأيناه مع "طوفان الأقصى" ومفاعيله والمواقف المختلفة منه، في المنطقة العربية والعالم، ونراه ونعيشه اليوم مع سقوط الأسد الوريث، ومرحلة ما بعد نظامه المنهار.
تزداد موجة المكارثية حدّةً كلما كانت أكثر تبنّياً لقضايا تمسّ الأمة في صميم وجدانها الوطني
في موجة صعود "طوفان الأقصى" وتداعياته، وحجم التضامن العربي والعالمي مع الشعب الفلسطيني وقضيته، كان عملاً شبه انتحاري أن يناقش الكاتب أو المفكر أو حتى الإنسان العادي خيارات حركة حماس السياسية مثلاً، أو أن يستدعي مناقشة جدوى أن يكون النضال من أجل فلسطين وقضيتها ضمن الإطار "الإسلاموي" على حساب الإطار القومي العروبي، على أن موجة التضامن العالمي مع فلسطين والفلسطينيين، والتي استدعتها مفاعيل الطوفان ربما أثبتت أن (أنسنة) القضية الفلسطينية ستكون الإطار الأكثر تأثيراً وانتشاراً على مستوى العالم.
مع امتداد زمن مأساة غزّة خصوصاً والفلسطينيين عموماً، ظهرت بوادر توجه مكارثي يقف حاجزاً من دون توجيه أي انتقاد إلى حركة حماس أو إلى الإسلام السياسي، زاد من سطوته حجم الجرائم المريعة التي تعرّض ويتعرّض لها المدنيون الفلسطينيون منذ أكتوبر/ تشرين الثاني 2023، والتي لن تكون "حلول" الرئيس ترامب العقارية لغزّة آخرها، فالإقليم كله يمور على نيران ما بعد الطوفان، ولياليه قد تكون حبالى بمشاريع ربما يمتد تأثيرها بتداخل مخيف من البحر الأحمر جنوباً إلى خليج إسكندرونة شمالاً، ومن البحر المتوسط غرباً إلى بحر العرب شرقاً.
يعيش السوريون اليوم حالة مشابهة تماماً، لا أدَلَّ عليها من حالة الانقسام الحادّ بينهم، في وعلى وحول كل شيء، الأمر الذي تجاوز كل الانقسامات التي عاشتها القضية السورية في سنوات الجمر بمواجهة إجرام نظام الأسد منذ مارس/ آذار 2011 وحتى سقوطه المريع في ديسمبر/ كانون الأول 2024، فهم مختلفون على المرحلة الانتقالية، وشروطها وحدودها، وكذلك على الشكل النهائي لسورية، والذي يطمحون إليه في المرحلة المقبلة، وعلى الإعلان الدستوري، والتخوّف الشديد لدى بعضهم من أنه يؤسّس لمرحلة طويلة نسبياً (خمس سنوات كما جاء في بعض أحاديث الرئيس أحمد الشرع)، ستكون كافية لإحداث تغييرات بنيوية في المجتمع السوري، وقادرة على فرض رؤى وفكر ونهج من يقفون وراءها في شكل دستور سورية ومستقبلها في نهاية المرحلة الانتقالية، التي ربما ستتحوّل، مع الوقت، أو ربما هكذا يطمح أصحابها، لتكون مرحلة طويلة جداً، كالتي عاشها السوريون على امتداد العقود الأخيرة.
يتزامن الانقسام السوري الحاد مع سعار طائفي كان لعقود تهمة موصوفة، لبسها نظام الأسدين بكل كفاءة واقتدار
يتزامن هذا الانقسام السوري الحاد مع سعار طائفي كان لعقود تهمة موصوفة، لبسها نظام الأسدين بكل كفاءة واقتدار، تحوّل اليوم ليصبح ماركةً مقبولة لا تثريب أن تسيطر على عقول الجميع وغرائزهم، في مقدمتهم من كانوا ضحاياه عقوداً طويلة، ولعل مكمن الخطر أن ضحايا المراس الطائفي بالأمس يستخدمونه مسوِّغاً لمراسهم التبريري اليوم، الأمر الذي لا يُبَشِّر بخير لمستقبل هذا البلد المنهك، فالسوريون قد يكون مبرّراً لهم أن يُحمِّلوا نظام الأسديْن مسؤولية كل الإرهاصات التي يعيشها بلدهم اليوم، وقد يكونون معذورين في ذلك، الذي لا عذر فيه أن تكون رؤاهم السياسية لبلدهم أسيرةً لهذا الإرث الثقيل. حتى وإن حمل الحديث عما ينتاب الوضع السوري اليوم الكثير مما قد يراه بعضهم سلبيةً أو سوداوية، إلا أن تجاوز ذلك والقفز فوقه قد يكون الأكثر سلبيةً وأشد خطورةً، ولعل الجرأة على طروحاتٍ كهذه، في هذا التوقيت خصوصاً، تعتبر مجازفةً تحمل في طياتها خطراً كذاك الذي جاء في التشبيه العبقري للمتنبي واصفاً حال سيف الدولة تنوشه الأخطار من كل جانب، في قوله بِعَجُزِ بيته الشهير: "كأنك في جفن الردى وهو نائمُ".
على أن الخطر الحقيقي الذي يتربّص بالسوريين، خصوصاً الذين يكتبون في الشأن العام، ألا يركبوا هذه المخاطرة، ويستسلموا باستمتاع، ومعهم قرَّاؤهم، للنشوةِ المبالغ فيها بمرحلة ما بعد الساقط المخلوع، ونظامه المافيوزي المجرم، والتي قد تعيدنا مع من سيخلفه إلى بداية الدائرة، من حيث بدأنا معهُ، من أقبح وأقذع منظر رأته نواصي شوارع دمشق على امتداد تاريخها الطويل: من لوحات "منحبك" الأسدية السيئة الذكر.