حتى لا تمرّ ذكرى المذبحة

13 يناير 2025
+ الخط -

وافق يوم أمس الأحد (12 يناير/ كانون الثاني 2025) ذكرى حزينة عند العُمانيين، حدثت في  1964، وهي ما يطلق عليها "مذبحة زنجبار"، حين طويت صفحة من فترة بقاء العُمانيين الطويل والمتعاقب في الشرق الأفريقي. حينها كانت زنجبار عاصمةَ ذلك الوجود العربي هناك. الوجود الذي لم يكن استعمارياً بالمعنى الكولونيالي الاستغلالي، بقدر ما كان حضارياً، إذ أسّس العرب هناك ثقافةً جديدةً وصُحفاً ناطقة بالعربية والسواحلية والإنكليزية، كما بنى السلاطين العمانيون المتعاقبون في الشرق الأفريقي ما لا يوجد في وطنهم الأصلي عُمان، مثل قنوات الصرف الصحّي والمباني الحكومية والقصور الحديثة، بالإضافة إلى دور سينما تعرض أفلام الموضة المصرية، كما تسرد ذلك حبيبة علي الهنائي في كتابها "العائدون حيث الحلم... مشاهد وذكريات عودة من زنجبار والجزيرة الخضراء إلى عُمان" (مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، الطبعة الأولى 2013)، يمكن كذلك إضافة استجلاب أنواع جديدة من المزروعات على رأسها شجرة القرنفل، التي أتى بها السلطان سعيد بن سلطان من مدغشقر ليزرعها في الجزيرة الخضراء في شرق أفريقيا، فكانت بمثابة الذهب الأسود، إذ كانت ثمرتها تصدّر وتباع بأثمان تنافسية إلى مختلف دول العالم. ولكن كان للاستعمار الإنكليزي كلمة أخرى، حين أنشأ تمرداً خارج زنجبار وتوابعها، وزوَّده بالسلاح، وأطلقه إلى أماكن حياة العُمانيين.
يكتب الشاعر سيف الرحبي في كتابه السيري "شجرة الفرصاد" (منشورات الجمل، 2016): "أتذكّر عمّ والدتي، وهو أحد العائدين إثر المذبحة المروعة، حيث قضى عمراً بأكمله في الشرق الأفريقي المترف مقارنة بظروف عُمان في تلك المرحلة.. كان يضرب الجدران ويصرخ طوال الليل، ونسمعه في غمرة الهذيان ينطق بحكايات تستعيد ألطاف ذلك الزمن ورفاهيته في الوقت الذي يلعن فيه اللحظة التي قذفت به إلى أرض أسلافه من جديد". كما يكتب المؤرّخ العماني زاهر المحروقي: "حتى صباح 11 يناير عام 1964، كانت زنجبار جزيرةً عربيةً يحكمها سلطان عربي.. وبعد منتصف الليل شقّ الهدوء بعض الطلقات، لم يستمر طويلاً فذهب الناس إلى نومهم مطمئنين، دون أن يتوقّعوا أن الأسوأ في طريقه إليهم. وما هي إلا ساعة حتى اجتاحت الأحياءَ والدور العربية فرقٌ من الجنود، فشرعوا في قتل سكانها العمانيين، واستباحوا النساء ونهبوا البيوت والممتلكات، وخلال ساعات سقط ما يقارب عشرين ألف قتيل. تحولت البيوت إلى مسالخ وحمامات دم. ولم يطلع صباح الأحد يوم 12 يناير 1964، إلا وأصبحت زنجبار غير عربية".
يحكي لي أحد الناجين العُمانيين أن العمانيين قتلوا بدم بارد، فنجا بأعجوبةٍ من خلال سفينة هرب نُقِل ركّابها من زنجبار إلى عُمان إذ مات كثيرون منهم في البحر، ويتذكّر جاره العماني الذي قتل هو وولده، بعد أن هرب في البداية، وتذكّر أنه نسي أمانة في دكّانه، ورجع هو وولده البكر ليأخذها، وعندما دخل ابنه الدكّان ليجلب الأمانة، أُحرق ابنه بالدكان أمام عيني والده، ثمّ أخذوا الأب وسحلوه بسيارة بالرجوع عليه أكثر من مرّة، بعد أن سوّيت جثته بالأرض، وتمكّنت زوجته وولداه من الهروب إلى عُمان. وثمّة صور كثيرة للتعذيب المروّع قبل الموت ظلّ الناس متكتمين عليها، وذلك حتى لاينكؤوا جراحهم. ونجا من العمانيين من وجد سفينةً تنقله بالسرّ إلى عمان قبل أن يصلوا إليه، وبعض الأطفال الذين حملتهم السفينة، وكانوا من الناجين من التعذيب، لم يسعفهم الحظّ، وماتوا في السفينة بسبب الزحام والبرد وقلّة الطعام وسوء الحالة الصحّية، ورُمِيت جثثهم في البحر حتى لا ينتشر المرض في السفينة. ذكريات مؤلمة يذكرها من نجا من تلك المذبحة المرعبة، ويحكونها وكأنهم يتخيّلون أحداثها التي لا تُمحَى من ذاكراتهم.
كانت زنجبار جنّةً خضراء للعُمانيين تعوّضهم جفاف العيش وصعوبته في الوطن، حيث الفقر والحروب القَبلية، وقد بنوا فيها مزارع وأسّسوا أعمالاً تجارية، وقد تعايشوا مع السكّان الأفارقة إلى درجة بلغت مستوى المصاهرة والتزاوج، ويمكن الحديث هنا عن أكثر من جيل، بل قرون من الحياة والعمل. وقبل المذبحة بساعات، سحب الإنكليز من الشرطة المحلّية أسلحتهم تحت حجّة إصلاحها، وكان في ذلك تمهيد خبيث للمذبحة، كما أورد سعود البوسعيدي في كتابه "مذكرات رجل عُماني من زنجبار" (مؤسّسة الانتشار العربي، بيروت، الطبعة الأولى 2012).

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي