حتى لا تعود عقارب الساعة في السودان إلى الوراء

حتى لا تعود عقارب الساعة في السودان إلى الوراء

25 سبتمبر 2021
+ الخط -

أنبأ السياق العام لمعادلة الحكم في السودان منذ إطاحة نظام عمر البشير (إبريل/ نيسان 2019)، عن توجّه متزايد للمكون العسكري للسيطرة على دفّة الحكم، في الوقت الذي كان وما زال يجري فيه على ألسنة قادة هذا المكون تمسكٌ لفظي بالمرحلة الانتقالية. ولعل أوضح الإشارات على التخلي الفعلي عن مقتضيات الانتقال الديمقراطي تمثلت في النكوص عن الوفاء بتسليم الحكم إلى المكون المدني في مايو/ أيار الماضي وفق الاتفاق المبرم بين العسكريين وقادة تجمع قوى الحرية والتغيير. وقد اتسمت الأيام القليلة الماضية بتدافع الأحداث والمواقف في هذا البلد، ففي وقتٍ تم فيه الإعلان عن إحباط محاولة انقلاب عسكري، الثلاثاء الماضي، فإن قادة مجلس السيادة رأوا أن يوجهوا سهام نقدهم، لا إلى محاولة الانقلاب، بل إلى الحكومة والمكون المدني. وهو أمرٌ يثير العجب، فقد كان المنطق السياسي يقتضي رصّ الصفوف وإعلان الوحدة في وجه أي محاولاتٍ لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، إلا أن القادة العسكريين استداروا للهجوم على حكومة عبد الله حمدوك، ولكأن مكمن الخطر يتمثل في هذه الحكومة، وليس في الانقلابيين، أو كأن الحكومة هي التي دبّرت الانقلاب العسكري الذي لم تُذع، بالمناسبة، تفاصيل كافية عنه.

بينما تقول الحكومة إن مصير قرارات التطبيع مرهون بالموقف الذي سيتخذه منها مجلس نيابي منتخب، فإن مجلس السيادة يمضي في خطوات التطبيع

وبهذا، يسع المراقب استخلاص أن ثمّة محاولة متعمّدة لخلط الأوراق والتلاعب بالأولويات، ومحاولة تعبئة الجيش، وما أمكن من قوى الرأي العام، ضد المكون المدني عموما، والحكومة خصوصا. ومن دواعي الغرابة أن يتم توجيه الاتهام للحكومة بأنها تسعى إلى إقصاء المكوّن العسكري، مع إطلاق موجةٍ من التهديدات، عبّر عنها رئيس مجلس السيادة، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، ونائبه محمد حمدان دقلو (حميدتي)، مفادها أن المكوّن العسكري باق ويتمدّد، وأن الجيش هو "الوصي على البلاد". وبهذا فإنه يجري تصوير مسألة الالتزام بمقتضيات المرحلة الانتقالية أنها تمثل إقصاء للمكون العسكري، وأن عودة الجيش إلى الثكنات، وإلى موقعه الطبيعي في حماية البلاد من التهديدات الخارجية وصون السلم الأهلي إقصاء. علماً أن جوهر مشروع التغيير يقوم على إرساء دولة مدنية، وعلى القطع مع الانقلابات العسكرية المتوالية ومجالس سيادتها التي استنزفت الثروات البشرية والمدنية، وأغلقت الطرق أمام الخيار الديمقراطي، وأمام التنمية الشاملة، وزجّت البلاد في حروبٍ وصراعاتٍ لا نهاية لها على مدى عقود، وأدّت إلى تشريد ملايين السودانيين في الخارج، ودفع الملايين إلى النزوح عن مواطنهم الأصلية داخل البلاد في ظروف حياة بالغة العسر. وكما كان متوقعا، رفضت الحكومة التهديدات على لسان وزير شؤون مجلس الوزراء خالد عمر يوسف، الذي اعتبر هذه التصريحات "تكرارا لتاريخ الانقلابات العسكرية السابقة وتهديدا مباشرا للمرحلة الانتقالية". ولم يتردّد الوزير في القول إن "المكون المدني في مجلس الوزراء لن يقبل هذا الهجوم وسوف يواجهه". وهو ما يُنذر بمرحلة اضطراب وصراع في صفوف قوى الحكم، وكان وما زال في الإمكان، كما من الواجب، تفادي الانزلاق إلى الصراعات، لو أن المكون العسكري استجاب لرغبة السودانيين في وضع حدٍّ لمسلسل الانقلابات العسكرية، والنأي بالمؤسسة العسكرية عن الانغماس في الشؤون السياسية الداخلية، وترك هذا الأمر للقوى التي يختارها الشعب وتمثله، مع احتفاظ الجيش بدوره المهني والوطني الذي تقضي به الأنظمة الديمقراطية. غير أن من الواضح أن مجلس السيادة، في شقّه العسكري الغالب، يُراهن، كما يبدو، على حظوةٍ يتمتع بها لدى أطراف خارجية، بأكثر مما يستند إلى التفاف شعبي، وقد كان لافتا أن القادة العسكريين سارعوا عقب إطاحة نظام عمر البشير إلى نسج علاقات خارجية، حتى قبل أن يتمتعوا بتفويضٍ من أي أحد.

محاولة متعمّدة لخلط الأوراق والتلاعب بالأولويات، ومحاولة تعبئة الجيش، وما أمكن من قوى الرأي العام، ضد المكون المدني

وعلى هذا الدرب، تم السير على نهج إدخال تعديلات على هوية السودان العربية والإقليمية، بالاندفاع إلى التطبيع مع إسرائيل، في وقتٍ كانت فيه قلة هامشية وضئيلة فقط هي التي تنادي بهذا مقابل رفض شعبي عام. وبينما تقول الحكومة إن مصير قرارات التطبيع مرهون بالموقف الذي سيتخذه منها مجلس نيابي منتخب، فإن مجلس السيادة يمضي في خطوات التطبيع، مستمدا من نفسه الحق في منح شرعية لهذه القرارات التي تتنافى مع تاريخ السودان السياسي الوطني والقومي. وقد شهدت الأيام القليلة الماضية، في غمار البلبلة السياسية التي أحدثها الإعلان عن إحباط محاولة انقلاب، وهجوم قادة مجلس السيادة على الحكومة، إعلانا عن مصادرة ممتلكات حركة حماس وأصولها على الأراضي السودانية، في وقت لم ترشح فيه أنباء عن أي أزمة بين هذه الحركة الفلسطينية ومجلس السيادة، باستثناء تقارير إعلامية شحيحة عن خيارات سياسية إقليمية لمجلس السيادة لا تتسع لإقامة علاقات مع "حماس". وحتى لو كانت هناك أزمة صامتة بين الجانبين، فقد كان المنطق يقضي بمعالجتها، وفي حال تعذّر ذلك، يُصار إلى دعوة الحركة إلى تصفية ممتلكاتها وإنهاء وجودها بطريقة ودية ومنظمة، وحسب الأصول في مثل هذه الحالات، لا أن يُصار إلى مصادرة تلك الممتلكات التي تعود لشعب عربي شقيق، وفي أجواء عدائية مفتعلة. ومن الجلي أن هذا القرار يأتي في سياق استغلال الظروف لتغيير هوية البلاد، والالتزام بمقتضيات التطبيع والوقوع في حبائله، والنكوص عن الالتزامات العربية والروابط القومية التاريخية للسودان. يقول المرء بذلك مع الاحترام التام لسيادة السودان وقراراته الوطنية، غير أنه يستغرب أن مفاعيل السيادة الوطنية تظهر أولاً باتجاه إقامة علاقات مع دولة الاحتلال الصهيوني، والسعي الحثيث لنيل رضا هذه الدولة، ودعم انضمامها مراقبا إلى الاتحاد الأفريقي، وإدارة الظهر للعلاقات مع الشقيق الفلسطيني، والتبشير بأن السودان بات يدور في فلك آخر، خلافا لما كان عليه خلال سبعة عقود وأكثر مما نشأت عليه أجيال تلو أجيال من السودانيين.

في ضوء ما تقدّم، يتبين أن المكون العسكري في مجلس السيادة يحمل مشروعا سياسيا قوامه بسط سيطرته على النظام الجديد، وحرمان السودانيين من توقهم إلى إرساء دولة مدنية عصرية، لا دور فيها للمؤسستين، العسكرية والدينية، في مزاولة الحكم السياسي، وأن محاولة الانقلاب العسكرية أخيرا لم تكن لتتم، لولا شيوع ثقافة قفز العسكر إلى الحكم من وراء ظهر الشعب، بما يجعل كل ضابط طموح أسير رغباته في الاستيلاء على الحكم. والأمل أن يتجنّد السودانيون للحفاظ على السلم الأهلي، والانطلاق نحو استكمال بناء المؤسسسات الدستورية، ووضع حدٍّ نهائي للانقلابات والحكم العسكري، فالسودانيون يستحقون أفضل من هذا، وهم أهلٌ له.