حبّة تمر تحيي نقاش العلمانية في فرنسا

03 ابريل 2025
+ الخط -

حدثانِ أجّجا نقاش العلمانية في فرنسا أخيراً، أوّلهما حبّة تمر أفطر عليها لاعبون في مباراة كرة قدم، ثانيهما نقاش الحجاب في ممارسة الرياضة، إلى درجة أن الإعلام الفرنسي، بأطيافه كلّها، أضحى لا يتحدّث إلا عن العلمانية التي يطبّقها الأوروبيون ويعملون بها، ولكن بذكاء، سواء في الرّياضة أو في المرافق العامّة، على غرار المدارس والجامعات، وهو ما يستدعي مقالةً تعلّق على علمانيةٍ من نوعٍ جديد في فرنسا، لا تعمل إلا ضدّ كلّ ما هو إسلامي، حصراً وبشكل كامل.
لا يتوقّف الحديث في فرنسا عن الإسلام والمسلمين، وكأنّهم الوحيدون من بين المهاجرين كلّهم مَن يثيرون الإشكالات، سواء ما كان حقيقياً منها، أو متوهّماً، ومن أفواه المسؤولين الرّسميين لكثرة مداخلاتهم، خاصّة في الإعلام. يمكن استشفاف ذلك، خاصّة أنّ ما يتحدّثون عنه، عندما يُناقَشون برويّة، كثير منه يخالف حتّى القوانين التي سُنّت في برلمانهم، وكان المستهدف منها الحدّ (وفق ما يقولون) من وجود المسلمين في الفضاء العام.

لا يتوقّف الحديث في فرنسا عن الإسلام والمسلمين، وكأنّهم الوحيدون من بين المهاجرين مَن يثيرون الإشكالات

بقصد التفصيل فيما أوجز في مقدّمة المقال، نتطرّق إلى مضمون حصّة (ندوة) نقاشية بثّتها قناة إخبارية فرنسية، شارك فيها وزير الداخلية الفرنسي، برونو روتايو، مع جمهور حاضر في الأستديو، ومنهم فتاة فرنسية محجّبة، محامية متدرّبة، كان لها حديثٌ مع الوزير، وأظهر كلامها معه جملةً من التناقضات والمغالطات. بدايةً، حاول الوزير الحديث بعباراتٍ تضمّنت كلمات "التهديد"، "الإسلاميون"، "المهاجرون المخالفون للقوانين"، "الحجاب خطر"، عبارات استوقفت المحجّبة لتذكّره بواجب التحفّظ، بما أنه وزير، في استهداف فئةٍ محدّدة من المجتمع الفرنسي (المسلمين) دون غيرهم، ثمّ الحديث عن القوانين وكأن تلك القوانين ليست مجرّدة وعامّة للفرنسيين كلّهم، بل مستهدفة جزءاً واحداً من الشعب الفرنسي، ما يوحي بأن لخطاب الوزير مرجعيةً أصبحت متداولةً من الإعلام، ومن المثقّفين والسياسيين، تتضمّن نبرةً عنصريةً تجاه دينٍ هو الإسلام، وإزاء معتنقيه.
هذا، في الجانب الشكلي لخطاب الوزير. أمّا في الجانب الخطابي، فقد تضمّن تناقضاتٍ ومغالطات، يمكن إجمالها في أربع، كان منطلقها الحديث عن العلمانية، قانون 1905، الذي يفرّق بين الدين والدولة، ويُعلن حياديةَ الدولة تجاه كلّ ما هو ديني. ولكن، في عرف اليمين واليمين المتطرّف، لا يفهم هذا القانون إلا عندما يتعلّق الأمر بحجاب المرأة المسلمة، خاصّة في المدارس وفي التوظيف العمومي والمحاكم، وهو ما يخالف روح ذلك القانون، كما تحدّثت تلك الفتاة المحجّبة المحامية، عندما قالت إن قانون 1905 يتضمّن حياد الدولة بين المواطن والدين، أي حرّية المواطن في ممارسة معتقده، أيّاً كان، من دون أن يكون لذلك دخلٌ في حياة المواطن ومواقفه تجاه القوانين، في تناقضٍ تامّ مع ما يتحدّث به هؤلاء عندما يتعلّق الأمر بممارسة المسلمين شعائرهم أو تطبيقهم جزءاً من تعاليمه، على غرار الحجاب، بعيداً من المساس بأيّ قوانين أو التعدّي على الفضاء العام، كما يدّعي الفرنسيون من أشباه وزير الداخلية روتايو. ويأتي التناقض الثاني من حديث الوزير عن قانون 2004، الذي يمنع من ارتداء أيّ علامات ظاهرة تبرز الانتماء الديني، في المدارس والمؤسّسات التربوية الفرنسية، وهو ما لم تعترض عليه المحامية، بل أردفت قائلةً إنها تابعت دراستها من دون مشكلات. ولكن لماذا السعي، كما قال الوزير، إلى توسيع مفهوم ذلك القانون ليشمل الجامعة، في تعدٍّ تامٍّ على ما نقضته المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان والمجلس الأعلى للقضاء الفرنسي، أعلى محكمة فرنسية.

الربط بين الإسلام والإسلاموية هو لبّ الخطاب اليميني المتطرّف في فرنسا 

يشمل التناقض الثالث في حديث الوزير إرادة السّياسيين الفرنسيين منع مرافقي أبنائهم في "الخرجات" التعليمية للمدارس الفرنسية، وخصّ بالذكر أمّهات التلاميذ المحجّبات، وكأن خروجهن مع أبنائهن إرهابٌ أو تعدٍّ على القوانين، ليقول الوزير إن الفضاء العامّ لا يحبّذ ظهور علامة دينية كالحجاب، لأن ذلك يتعارض مع قانون 2004 المذكور، في حين أن القضاء الفرنسي حكم لصالح تلك الأمّهات، وسمح لهن بمرافقة أبنائهن، ذلك أن تلك الخرجات التربوية تكون خارج إطار المدارس والمؤسّسات التعليمية. وبذلك ليس ثمّة تعارض بين المرافقة ومنطوق ذلك القانون. أمّا التناقض الذي تحدّثت عنه تلك المحامية المتدرّبة، فهو خاصّ بها، لأنّه تضمّن الإشارة الى تهديد مستقبلها المهني، لأن المحاكم ممنوعةٌ على أمثالها من المحجّبات، قبل أن تشير عليه بأن مهنة المحاماة تتضمّن فضاءً أوسع من الحضور في المحاكم، وبأن الحجاب لا ارتباط له بما أشار إليه من أن الحجاب من الإسلاموية، أي توجّه سياسي، وأنه جاء من وحي العنف الأسري، إذ تحثّ الأُسر بناتها على ارتدائه قسراً، وهو ما نفته المحامية، مشيرةً إلى وضعها ووضع مئاتٍ من المحجّبات اللاتي ارتدينَه من دون تهديدٍ من العائلة، كما أنهن لسن إسلامويات، ولا توجّه سياسياً للحجاب، الذي يدخل، وفق تعاليم الإسلام، في إطار العلاقة الفردية بين العبد (المرأة) وربّه، أي العلاقة الفردية التي يضمنها قانون 1905 للعلمانية، وقوانين الجمهورية الفرنسية الضامنة حرّية الإنسان وحرّية معتقده.
تنمّ جملة تلك التناقضات عن استمرار فرنسا في إنتاج علمانية جديدة، تستهدف فئةً واحدةً من المجتمع، وتحاول، من خلال مجموعة من القوانين، على غرار قانون الانعزالية، الربط بين الإسلام والإسلاموية، وهو لبّ الخطاب اليميني المتطرّف، المرتكز على شعورٍ بوجود أعداد متزايدة من المحجّبات في الفضاء الفرنسي، مع إرفاق ذلك بعدة مؤشّراتٍ لا دليل عليها، مثل الربط المنطقي في أذهانهم بين الإسلاموية والإسلام، بين الحجاب والعنف، وبين الحرّية ووجوب نزع الحجاب/ عدم أو منع ارتدائه، في الفضاء العام، بتفسير يضيق ويتّسع كلّما كانت هناك حملات انتخابية.
من المفارقات، في فرنسا، وبما أنّها بلد نعترف لها أنها تزخر بحرّية التعبير، أن هناك فكاهياً جزائرياً يُدعى رضا صدّيقي، بدأ صوته يرتفع من خلال استعراضات فكاهية، أجاب بطريقةٍ غير مباشرة عن الخطاب اليميني المتطرّف الفرنسي حين قال، في أحد استعراضاته، بما أن اليمين المتطرّف يرفع من قدر المهاجرين، والمغاربة بصفة خاصّة، إذ ينسب إليهم تخطيطاً شديدَ التعقيد يحمل مسمّى الاستبدال الكبير بالانتقال، بالرغم من كلّ الصعوبات للحصول على التأشيرات، وبالطرق المتاحة، ومنها الهجرة غير الشرعية، ثمّ الانتقال في سفرياتٍ طويلةٍ للوصول إلى فرنسا والإقامة فيها، وصولاً إلى تأسيس عائلات، والبدء بتطبيق مخطّط مشروع الاستبدال الكبير، الذي يعني، بكلّ بساطة، العمل في عدّة أجيال باستبدال ساكنة فرنسا بالمهاجرين.
يواصل رضا صدّيقي في استعراضه القول إن النجاح الوحيد الذي يدّعيه اليمينيون المتطرّفون للمهاجرين هو التخطيط والتنفيذ، والنجاح في النهاية في أكبر مشروع للتغلّب على الغرب، وعلى فرنسا بصفة خاصّة، من دون الحاجة إلى الحرب أو الاستعمار، كما فعل الغرب وفعلت فرنسا، أي إن المهاجرين نجحوا في التخطيط والتنفيذ لمشروع استيطانٍ طويل الأمد، ومن دون أيّ قدرةٍ لفرنسا على الردّ أو القيام بأيّ ردٍّ لأن المشكلة تجذّرت، وأضحى المهاجرون بالقانون فرنسيين، ومن ثم، لا يمكن طردهم أو إيقاف مشروع الاستبدال الكبير. بالرغم من أن رأي رضا صدّيقي مجرّد دعابة، لكنّه ردّ منطقي على ادّعاء أن المحجّبات تهديدٌ لدولة عظمى بحجم فرنسا، وتهديدٌ للتناسق المجتمعي والثقافي لمجتمعٍ له حضارةٌ بلغت الآفاق، ولها تاريخ وتأثير عبر العالم.

ثمّة تسييسٌ لقضايا هامشية على حساب ما تعرفه فرنسا من تراجع، وإشكالاتٌ يجب أن تواجهها في الاتحاد الأوروبي وفي "ناتو"

في النتيجة، في خضم الأزمة الحالية بين فرنسا والجزائر، هل يمكن القبول بتوتير العلاقات بسبب ستّة مؤثّرين وكاتب، وهل يمكن لوزير داخلية دولة عظمى بحجم فرنسا، لديها تلك الإشكالات الداخلية، التي يمكن لوزير الداخلية الاهتمام بها وحلّها، التركيز، كما يفعل سياسيون متطرّفون، مثل إيريك زمور أو مارين لوبان، في مسائل صغيرة مثل الحجاب، بالنظر إلى عدد المحجّبات في الفضاء الفرنسي، والجميع يتذكر قضية العباية، ذلك اللباس المشرقي الذي استهوى فتياتٍ فرنسياتٍ من أصول مغاربية، بصفة خاصّة، وعددهن أقلّ من مائة شابّة، كيف أنها شغلت الرأي العام الفرنسي، وأصبحت لأسابيع موضوع الساعة في فرنسا، فركّز الإعلام فيها، وكانت حديث السياسيين والمتطرّفين من الإعلاميين والمثقّفين، وكأنها قضية استراتيجية أو قضية أمن قومي لفرنسا، ما يدلّل على أن ثمّة تسييساً لقضايا هامشية على حساب ما تعرفه فرنسا من تراجع، وإشكالاتٍ يجب أن تواجهها في الاتحاد الأوروبي وفي حلف شمال الأطلسي (ناتو)، الآن، مع قدوم ترامب، مع أميركا.
ذلك هو المعنى الجديد للعلمانية في بلدٍ معروف بالفلاسفة وبتاريخ كبير من التّنوير الثقافي عالمياً، وهو معنىً سياسيٌّ أكثر منه قانونياً أو فلسفياً، ارتدّت به فرنسا دولةً استبداديةً في قضايا المهاجرين، وبصفة خاصّة، تجاه المغربيين والجزائريين، باعتبار أن ثمّة استبدالاً كبيراً أو شعوراً بالإغراق بالمهاجرين، كما قال الوزير الأول، بايرو، قبل أيّام في حصّة إخبارية، وكأن فرنسا لا إشكاليات تهتم بها إلا المهاجرين، وتغيير معنى العلمانية (بسبب هذا) في بلد عريق وقوة عظمى عالمية.