حانت ساعة الحقيقة مع إدارة ترامب
بعد ساعات من صدور البيان الختامي لقمّة القاهرة، والخطّة العربية لإعمار غزّة، تمكّن المتحدّث باسم مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض، براين هيوز، من صياغة ردّ متسرّع خاطئ وغير موضوعي على الخطّة. وظهر أولاً موقف الخارجية الإسرائيلية الذي يرفض كلّ شيء، وتلاه بعدئذ ردّ فعل البيت الأبيض المُقتضَب و"الهادئ"، الذي يبدو مصوغاً قبل انعقاد قمّة القاهرة، ومن دون قراءة الخطّة التفصيلية. ولم يفاجأ العرب كثيراً بفحوى هذا الموقف الأميركي السلبي، غير أن بعضهم على الأقلّ قد فوجئوا بتسرّعه، وبمجافاته مضمون الخطّة، وهو ما يعيد إلى الأذهان الملاحظة الصائبة التي تردّدت في الأيام القليلة الماضية عن خلو البيان السياسي للقمّة من أيّ إشارة إلى بديل، في حال لم تلقَ الخطّةُ التفهّمَ والتجاوبَ الكافيَين والمستحقَّين من إدارة دونالد ترامب. وأياً يكن البديل، لن يكون أبداً تراجعاً عن الخطّة أو تجميداً لها، بل جملة إجراءات سيادية للضغط على الطرف الذي لا مشروع لديه سوى حرب الإبادة، وتحويل قطاع غزّة جحيماً. وليكن الجحيم من نصيب من يتمنّى لغيره هذا المصير!
لقد أعاد البيان الأميركي (المُقتضَب) التذكير بأن غزّة "غير صالحة للسكن حالياً"، وهو وصف ظاهري صحيح، لكن الاستخلاص الذي يخرُج به أصحاب هذا الوصف خاطئ، فرغم الظروف المريعة التي يعيشها أبناء القطاع، إلا أنهم متمسّكون بالبقاء في أرضهم، ويتطلّعون إلى المباشرة في إعادة الإعمار والمشاركة في إعادة بناء ما هدّمته حرب نتنياهو، ويرون في اقتراح نقلهم إلى الخارج حلّاً استئصالياً يستكمل أهداف الحرب الوحشية. وإذ يتحدّث المتحدّث الأميركي أنه لا يمكن للسكّان العيش هناك بشكل إنساني، فقد كان الأوْلى به الدعوة إلى المسارعة في عمليات الإغاثة وإزالة الذخائر غير المنفجرة، وليس إزالة السكّان. فيما تملي المسؤولية السياسية والأخلاقية على الدولة العظمى الوقوف في وجه من يمنع دخول المساعدات ويغلق المعابر، ويتحدّى بذلك القوانين والأعراف الإنسانية والدولية. وفي تطرّقه إلى حركة حماس، تجاهل المتحدّث هيوز أن الخطّة العربية تتحدّث عن لجنة خبراء لإدارة القطاع فترة قصيرة، يليها وجود السلطة الفلسطينية، وفي أجواء من وقف إطلاق النار المستدام، مع رعاية حثيثة من الطرف المصري وأطراف دولية.
يمثّل ردّ الإدارة الأميركية على الخطّة العربية بدايةً غير موفّقةٍ، وترجمةً خاطئةً كلّياً للتوجّهات السلمية
لا تبتعد كلمات المتحدّث باسم مجلس الأمن القومي عن أنها مجرّد مناكفة أوتوماتيكية، تبدر من طلبة أشقياء في ساحات المدارس، وأنها خاليةٌ من أيّ رغبة للفهم والتفاهم، ما يجعلها بعيدةً كلّياً من مقتضيات الحوار الجدّي والمسؤول. وفوق ذلك، تنطوي كلمات براين هيوز على استخفاف تامّ بخطّة صاغتها وتبنّتها 22 دولة عربية، وبعض هذه الدول ذات وزن كبير في الإقليم والعالم. وقد بدا المتحدّث في بيانه كأنّه يردّ على تصريح سياسي، وليس على خطّة جماعية متكاملة، ولذا لم يكلّف نفسه (ومن ورائه الإدارة) التمعّن بالخطّة والتمهّل في فحصها، وإدراك محتواها. وبدلاً من ذلك، اكتفى بالردّ بتصريح مُفعمٍ بالنزق السياسي، ولا يُوفّر مدخلاً صالحاً لـ"مزيد من المحادثات، لإحلال السلام والازدهار في المنطقة"، وفق المتحدّث. إذ إن مثل المحادثات تتطلّب التمسّك بإرادة حقيقية لصنع السلام، وليس التمسّك بإرضاء طرف واحد فقط، يجاهر برفضه للسلام، وتحبيذ الحرب إلى ما لا نهاية. وفي واقع الحال، يمثّل ردّ الإدارة على الخطّة العربية بدايةً غير موفّقةٍ، وترجمةً خاطئةً كلّياً للتوجّهات السلمية.
حتى وإن لم يكن مُعلناً، لا بدّ أن يقوم الردّ العربي على السلبية الأميركية المُفرِطة، ابتداءً، على التمسّك بهذه الخطّة الجماعية، والاستعداد التام لمناقشة تفاصيلها في أقرب وقت مع إدارة ترامب، كي تتيقّن هذه الإدارة أن الخطّة العربية تعالج الواقع بصورة واقعية قابلة للتنفيذ، والتشديد خلال ذلك على وقف الانتهاكات الجسيمة لوقف إطلاق النار ووقف حرب التجويع، واعتبار هذه التهديدات أمراً لا يمكن السكوت عنه أو التهاون فيه، وأن الأطراف العربية لن تترك أكثر من مليوني غزّي تحت رحمة طرف متعطّش لمزيد من سفك الدماء، وأن البديل لذلك استكمال تنفيذ الاتفاق بجميع مراحله وبنوده، بما في ذلك خروج الأسرى الإسرائيليين والأميركيين والإفراج عن الأسرى الفلسطينيين. إذ إن التلكّؤ في تنفيذ الاتفاق، أو محاولة التنصّل منه، يُشكّل مساساً بالأمن القومي العربي، وتهديداً للاستقرار في المنطقة، وبخاصّة مع أخذ التعدّيات المستمرّة على سورية ولبنان في الاعتبار.
المطلوب أن يتركّز الحوار باسم المجموعة العربية مع إدارة ترامب بالذات، يكون حواراً صريحاً يسمّي الأشياء بأسمائها
لقد نجح الرئيس ترامب في الضغط من أجل وقف إطلاق النار، وإبرام اتفاق بهذا الشأن مع الوسيطَين المصري والقطري، ومن الطبيعي أن تكون واشنطن في مقدّم الساهرين على ضمان تنفيذ هذا الاتفاق، وإحلال هدوء مستدام، تمهيداً للانتقال إلى معالجة الصراع من جميع جوانبه وإرساء سلام دائم عبر فِكَر جريئة وجديدة، تنسجم مع الشرعية الدولية وقراراتها، بما يُلبّي مصالح جميع الأطراف.
ليس مفيداً الآن تشكيل وفد وزاري للاتصال مع المراكز الدولية، إذ حظيت الخطّة العربية (وسوف تحظى) بأكبر تأييد في الشرق والغرب، وفي سائر حواضر العالم، والمطلوب تبعاً لذلك أن يتركّز الحوار باسم المجموعة العربية مع إدارة ترامب بالذات، على أن يكون حواراً صريحاً يسمّي الأشياء بأسمائها، وذا طابع تفاوضي، وفي إطار يستدعي ويوجب الاحترام المتبادل لمكانة الطرفَين، وللعلاقات التاريخية الممتدّة بينهما، ولجُملة المصالح الهائلة والمتشابكة التي تجمعهما. وهو ما تدركه جيداً الدوائر الأميركية، وسبق لترامب أن أعرب عقب وصوله إلى البيت الأبيض عن رغبته بزيارة السعودية، أوّل أو ثاني وجهة خارجية يزورها، وقد ازدادت أخيراً موجبات هذه الزيارة، بعد أن اشتدّت الحاجة إلى إحلال السلام في الشرق الأوسط، وبعدما تبيّن أن هناك من يريد إفساد كلّ شيء، ومن يراهنون على الصراع والتدمير إلى ما لا نهاية، مع الإفادة خلال ذلك من السخاء الأميركي الدائم بمساعدات مفتوحة بمليارات الدولارات.