حاكم ومحكوم .. ومترجم فوري!

حاكم ومحكوم .. ومترجم فوري!

25 أكتوبر 2020
+ الخط -

تشكل مهنة المترجم الفوري رمزًا للتباين بين عالمين، صحيحٌ أنه تباين لغوي لا أكثر، لكنه دليل عجزٍ عن التواصل. وكل دولة يغيب فيها التراضي في العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وكل دولة تتحوّل فيها ساحة الشأن العام إلى ساحة صراع يتصادم فيها عالمان: من الأفكار المتناقضة، والقيم المتباينة، بل حتى المشاعر المتضادة. تصبح العلاقة بين الحاكم والمحكوم معتمدة بشكل تام على: "مترجم فوري"!

عندما تقرر سلطة تحويل التمثيل النيابي من مهمتيه الرئيستين، الرقابة والتقنين (وهو بذلك يكون صوت المحكومين)، إلى أداة للتسويغ والتبرير وانتقاص حقوق المحكومين، بل إهدارها، وعندما تطلق السلطة رصاصة على رأس حرية الإعلام، يكون المحكومون شعبًا "مطقوع اللسان". ومع الانفصال التام والقيم والمشاعر، بين "فئة الحكام" و"فئة المحكومين"، تشتد حاجة الطرفين إلى "مترجم فوري".

عندما تطلق السلطة رصاصة على رأس حرية الإعلام، يكون المحكومون شعبًا "مطقوع اللسان"

وفي هذه الحالة، تستخدم السلطة حزمةً من وسائط الترجمة: منصات الإعلام وشاشات الفن، والكتائب الإلكترونية، والفتاوى الـمُصَـمَّمة مُسبقًا. وقد تضطر، في آخر الشوط، إلى إسناد مهمة الترجمة الفورية إلى: "أجهزة الأمن السياسي" وقوات فض الشعب. وهكذا، يبقى التواصل بلغة واحدةٍ ممتنعًا أو ممنوعًا، والنتيجة واحدة. وخلال ما يزيد عن قرنين من تجربتنا مع الدولة الوطنية الحديثة في العالم العربي، وهي ترفض الحديث بلغة المحكومين، وتفشل في نشر لغتها لتصبح اللغة السائدة. وبسبب الفشل من جانب الآخر، يزداد بوتيرة كبيرة الاعتماد على "المترجمين الفوريين" الذين يعملون تحت لافتاتٍ لا تُعد ولا تـُحصى. وبعض هؤلاء يترجم إلى "لغة الإغواء"، وبعضهم يترجم إلى "لغة القمع". وخلال النصف الثاني من القرن العشرين، عشنا ما يقرب من نصف قرن عربي من الوعود المتفائلة المتحمسة، شملت: التعليم المجاني للجميع، والوظائف الحكومية للجميع، والخدمات المجانية للجميع. وبالنسبة إلى شعوبٍ ذاقت أغلبياتها الفقر والحرمان ما يزيد عن مئة سنة، كانت هذه المفردات الجديدة تزيد في تأثيرها قليلًا عن السحر: الأوبرا، والمسرح، والسينما، والمدرسة، والجامعة، والوظيفة، والسكن، و.... أما اليوم فإن حصيلة سنوات الإغواء بالوعود كانت: "ثورات الربيع العربي".

ومن هنا، حدث التحول في "الترجمة الفورية" من الإغواء إلى القمع، ومن الوعد إلى الوعيد، ومن مداعبة الخيال بأحلام المستقبل الزاهية إلى ذبح المعارضين وتقطيع جثثهم، ومن احتواء النخبة وتقريبها من صانع القرار، إلى طرد النخبة ومطاردتها وتجويعها واعتقالها ووصمها و... ... وبعد أن كان الاحتواء والحشد خلف السلطة أعلى صوتًا، أصبح الإقصاء والعنف اللفظي والفعلي أعلى صوتًا، وصولًا إلى القرار التاريخي للرئيس السوري بشار الأسد بالاستعانة بفريق من المترجمين الفوريين من: روسيا وإيران وأماكن أخرى للتواصل مع شعبه العربي.

حدث التحول في "الترجمة الفورية" من الإغواء إلى القمع، ومن الوعد إلى الوعيد

والحالة السورية تعد الأكثر دموية وإيلامًا في المشهد العربي لعلاقة "فئة الحكام" بـ "فئة المحكومين"، والتحولات الكبيرة في دور "المترجم الفوري" بين المتعايشين مع الاختلاف والتباين والتباعد والتباغض. وكلما ازداد الاعتماد عليه، ازداد المستقبل إثارةً للقلق وبعثًا على التشاؤم. وقد أصبح اجتماع الفريقين على لغة واحدة ومعايير مشتركة أبعد احتمالًا من أي وقت مضى في تاريخ العالم العربي الحديث، وحدود التماس بين الفئتين أصبحت حدودًا من الدم والغضب. ولنتذكر هنا عبارتين حازتا شهرة كبيرة: سؤال معمر القذافي معارضيه: "من أنتم؟" وعبارة الرئيس التونسي زين العابدين بن علي: "الآن فهمتكم". .. السلطة إذ تتحوّل إلى "شرنقة اغتراب" تجعل كل محكوم في نظرها مرشحًا لأن يكون: غريبًا، مخيفًا، مريبًا، متربصًا، متآمرًا، ناكرًا للجميل. 

واللغة أحد أهم موارد رأس المال السياسي في كل مكان. والاستهانة بها وبالآثار الخطيرة لتباين دلالاتها شرخ في بناء "المشترك العام" بمعناه الواسع (الثقافي، الاجتماعي، السياسي، الأخلاقي)، فهذا المشترك هو الصخرة التي يمكن أن تحمل دعائم دولةٍ تتصف بالاستقرار والاستدامة. واللغة، في النهاية، وسيلة لوصف واقع. وبها نصدر الأحكام على ظواهر هذا الواقع، فإذا لم تنحج جماعة بشرية (حكامًا ومحكومين) في إنتاج خطاب قابل للفهم من دون ترجمة فورية: ممكناته واحدة، ومحرّماته واحدة، ومعاييره واحدة، لن يكون للبنى التي يشيدها مستقبلٌ، مهما بلغت درجة تماسكها التنظيمي.