حاشية في مناكفة فارغاس يوسّا

حاشية في مناكفة فارغاس يوسّا

26 يناير 2022
+ الخط -

لهذه المقالة مناسبتها في احتجاج مجموعة من المثقفين والأكاديميين على تبوؤ الروائي البيروني، ماريو فارغاس يوسّا، الحائز على جائزة نوبل للآداب (2010)، أحد المقاعد الستة الشاغرة في "الأكاديمية الفرنسية" المعنية بحماية الآداب واللغة والثقافة الفرنسية، على خلفية مواقفه "المتطرّفة" و"المعادية للشيوعية"، وعلى دعمه زعماء اليمين في أميركا اللاتينية. ولم ينس المحتجون الإشارة الى "المشكلات الأخلاقية الخطيرة" ليوسا، وارتكابه واقعة "تهرّب ضريبي" فضحتها "أوراق باندورا". ورأوا أن دخول يوسّا إلى حرم الأكاديمية "يضفي الشرعية على مواقفه التي تضرب عرض الحائط بقيم الديمقراطية الفرنسية، ولا سيما الحق في الدفاع عن القضايا العادلة".

ومع أن دخول يوسّا إلى الأكاديمية الفرنسية ليس مكسباً شخصياً له، بقدر ما هو مكسب للأكاديمية نفسها ولفرنسا، فإن ما قاله المحتجّون عنه ليس جديداً، إذ كان بدأ حياته يسارياً وصديقاً للثورة الكوبية، إلا أنه سرعان ما انقلب على ذلك، وتحوّل إلى اليمين المتطرّف، مؤيداً السياسات الأميركية المعادية للشعوب. ومن مواقفه المعلومة تبريره غزو العراق على أساس "أن الدكتاتوريات من المستحيل أن تتغير بفعل الداخل"، لكنه قبل ذلك كان من المعارضين لفكرة الحرب. وقد زار العراق بعد الغزو بشهور، وفي "يومياته" كتب "إن الحرب الأميركية خلفت أنقاضاً وحريةً لكنها الحرية البربرية التي أدّت إلى نهب كل شيء"، و"أن خراباً ضرب بغداد جعلها مدينة شديدة القبح بعدما كانت من أجمل المدن العربية". وقريب من هذا الموقف ما كتبه بخصوص القضية الفلسطينية، واعتداده بكونه "صديقاً لإسرائيل"، لكنه دان سياساتها العنصرية ضد الفلسطينيين وممارستها القتل الانتقائي والتعذيب والسجن ومصادرة الممتلكات وهدم المنازل. ولاحقاً في زيارة له إلى الأردن طوّر موقفه: "الحل في دولتين، إسرائيل ودولة للفلسطينيين".

يعترف يوسّا بأن الخطأ الفادح الذي ارتكبه في حياته أنه أصبح شيوعياً، ولذلك تخلى عن عضويته في الحزب الشيوعي بعد عام فقط

يعترف يوسّا بأن الخطأ الفادح الذي ارتكبه في حياته أنه أصبح شيوعياً، ولذلك تخلى عن عضويته في الحزب الشيوعي بعد عام فقط، "كنت أفكر أن الماركسية هي المخرج للبشرية من الظلم، لكنني اكتشفت في النهاية أنها أيديولوجيا مغلقة وطائفية ومتعصّبة وتقود إلى الخراب".

وفي أميركا اللاتينية، وجدت أحزاب اليمين في طروحات يوسّا نوعاً من التناغم مع رؤيتها إلى أفكار اليسار وتنظيراته. وبالطبع، كان هذا هو الدافع لأن تنظم المعارضة الفنزويلية، زمن الزعيم اليساري هوغو شافيز، ندوة يتحدّث فيها يوسّا عن "التحدّيات التي تواجه أميركا اللاتينية" كنت أحد شهودها. وفي حينها أثارت مشاركته في الندوة ضجيجاً كثيراً، خصوصاً بعد أن أطلق هجومه على التجربة الفنزويلية قبل أن يصل إلى كاراكاس، إذ وصفها بأنها "تيار شعبوي خطر يهدّد الديمقراطية في أميركا اللاتينية ويعيق تطوّرها"، ولم يستجب شافيز لطلب أنصاره منع يوسّا من دخول البلاد، لقناعته أن ذلك قد يفسّر بالعداء للديمقراطية ولمبدأ حرية التعبير، لكن يوسّا، المعروف بغرابة أطواره وعشقه المناكفات وتعمّده إثارة الضجيج في كل مكان يحلّ فيه، وهو ما أكّده لي صحافي فنزويلي صديق له، واصل إطلاق تصريحاته المعادية، حتى وهو داخل قاعة الندوة، في مناكفة منه لدفع حكومة شافيز إلى طرده من البلاد، واستثمار خطوةٍ كهذه لصالحه، لكن الرئيس الفنزويلي رد بمناكفةٍ أشدّ، عندما فاجأ يوسّا بدعوته إلى جلسة حوار في القصر الرئاسي، يحضرها مفكرون يساريون، إلا أنه اشترط أن يجرى الحوار بينه وبين الرئيس فقط من دون مشاركة آخرين، وردّ شافيز بالقول إنه رجل عسكري، وإن الحوار يمكن أن ينتظم على مستوى رجال الفكر، مشترطاً على يوسّا أن يعود الى بلاده (البيرو)، ويحصل على الرئاسة عن طريق الانتخاب أولاً، في إشارة ساخرة إلى خسارة يوسّا في الانتخابات الرئاسية التي كانت قد جرت في بلاده.

كان يوسّا في ارتكاباته المتأرجحة يعكس فكره النقدي

ومع كل ما قيل ويقال، يمكن الإشارة إلى أن يوسّا كان في ارتكاباته المتأرجحة يعكس فكره النقدي، بعدما أدرك أن "الماركسية" تحمل "دوغمائيتها" معها، وسوف يكتشف دعاتها، في مرحلة ما، أنها مليئة بالثقوب، وهذا ما وصل إليه لاحقاً.

وعلى أية حال، فإن يوسّا، وإن ظلّ يغترف من السياسة ويكتب فيها، إلا أنه، بوصفه روائياً كبيراً، وقد عدّ واحداً من قلة في هذا المضمار، فإن ثمّة مسافة بينه وبين النشاط السياسي المباشر تظل قائمة، وهو حتى في سعيه إلى الرئاسة في بلده لم يحاول أن يتخطّى تلك المسافة، وهو القائل "السياسة مملكة الكذب"، و"السياسي قد يضطر للسير بين الجثث"، وهو لم يكن يريد ذلك لنفسه!

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"