حاجة العالم إلى أمّح

قد يقول لك قائل إن كرة القدم في الدول الفقيرة والنامية عموما لا تقدّم ولا تؤخّر، ولا تقدّم إلا المزيد من الخضوع لمنظومة الأقوياء في العالم، والمشي وراء ركبهم، كزينة الفقراء في الأفراح الشعبية، وأصدّقه ولا أخالفه. وقد يقول لك قائل إن كرة القدم لا ترفع من حيل البورصة ولا تخفضها ولا تسد عجز الموازنة في الدول المديونة لطوب الأرض، ولكنها تشتري بسخاء حاتمي لشعوبها الأسلحة وأدوات الزينة والماكياج، وأصدّقه أيضا بشدة. وقد يقول لك قائل: وماذا استفاد الناس من كرة القدم في بلدٍ يرهن ثلث موازنته السنوية فوائد ديون، ويُمسك شبابه في الميادين، ويعرضهم على النيابة نظير الحصول من شابٍّ بلا عمل على "خمسين جنيها غرامة"، لأنه لم يكن معه "كمامة"، ولا محفظة أصلا، فأصدّقه ضاحكا. ولكم رأيت هذا المشهد المؤسف كثيرا، وقد يتجاوز القائل كرة القدم معمّما نكده الأصيل، إلى القوى الناعمة قاطبة ومسلسلات رمضان، بعد ما "عدّ بنفسه" عدد فساتين يسرا في مسلسل شهير، فوجدها تجاوزت الـ 552 فستانا. ولا أعرف كيف جاءه الصبر والقدرة على ذلك العمل، فضحكت وأمّنت على صحة نكده أيضا من دون أن يتجاوزه إلى "لا قدّر الله" برمي نفسه أسفل عجلات المترو، لأنني أستبشع هذا التصرّف حتى لو تسوّلت أو سرقت أو خطفت.

أما حينما تطرّق القائل إلى زجاجة الزيت وكيلو السكر اللذيْن تهدد بهما الحكومة والرئيس ووزير التموين شعبهم من سنوات، مرّة بتحديد النسل، فأحس أن كرة القدم مطبوخة في جبال الألمب كطعام للجياع حتى من أيام روما القديمة، قلت له إن مصارف الأغنياء مليئة بالمليارات، ولا تعيدنا إلى هذا النكد. وأكملت: "هل رأيت فيديوهات الشاب الأهلاوي أمّح؟"، قال القائل: "أنا بعدما رأيت الجثث في استاد بور سعيد لم أعد أشاهد مباريات كرة القدم من سنوات. وهذا قد سبب لي بعض المشكلات البسيطة مع الأسرة، حينما أسمعهم يهللون لهدف للأهلي أو للزمالك". قلت له: "بس الأهلي عضمة شعبية زرقة للآن على أي سلطة". ضحك وأكمل: "وأمّح عمل أيه كده بالصلاة على النبي؟"، قلت له: "أمح شاب من مشجعي النادي الأهلي من أصحاب القدرات الخاصة وقد أطلق على نفسه، أمّح الدولي"، وله فيديوهات كثيرة، عاد للصمت وقال: "كسبنا صلاة النبي". ثم قال: "أنت واضح دخلت على الهوا"، ثم عاد إلى "الكرتلة"، وذكّرني بأنها كانت منتشرة جدا في الستينات، وكان المحظوظ من يكسب صحن ألومنيوم أو علبة ملبن، ولكن الشركة التي كانت تبيع الكرتلة كانت تلفّ البخوت التي بها نمر الفوز السعيد كالصحن وكعلبة الملبن بطريقة تجعل صاحب الكرتلة يعرفهما بسهولة. قلت: "تقصد هنا أن أمّح الطيب هذا يشبه كرتلة الستينات؟ .. يا أخي حرام عليك"، فردّ بسرعة ضاحكا وهو يؤكد: "أنا مش قلتلك أنت دخلت على الهوا؟".

حاول جاهدا أن يعود إلى البنوك والدول الفقيرة، ولكن ضحكات أمّح التي أراها في فترات نكدي كانت تغطّي على محاولاته لجرّني إلى النظريات، خصوصا وأنا مقتنعٌ بأن أمّح يصدّق نفسه جدا وبحرارة، بدليل أنه قال جادّا: "أنا وكيل كهربا"، ولا أعرف إلى الآن إن كان وكيل اللاعب كهربا في قسيمة المأذون الخاصة بزواج اللاعب أو وكيله في العقود والاحتراف، ثم أكمل أمّح أيضا: "أنهم سيجدّدون عقد المدرب في الأهلي الليلة، وهو حبيبي". وبالفعل، جدّدوا العقد للمدرّب سنتين. ضحك القائل، وقال: وماذا فعل الشيخ أمّح أخيرا؟ قلت له إنه ظهر في آخر فيديو حزينا يبكي، وقد دمعت عيونه بالفعل، فخرجت مصر عن بكرة أبيها وأمها، ووزعت فيديو أمّح في المعمورة، لأنهم، ببساطة، منعوه من دخول "ماتش الأهلي"، وقد طالب أمّح قيادات النادي فورا، وفي مقدمتهم محمود الخطيب شخصيا، بعمل "كارنيه" عاجل لدخول الماتشات، واستجاب الخطيب فورا، وذهب أمّح على ظهر حصان إلى بوابات النادي الأهلي، وكانت في انتظاره الجماهير والكاميرات، واستلم "الكارنيه" لحضور كل "الماتشات" المحلية والدولية والتدريبات أيضا، وهذا ما لم يستطع الشعب المصري قاطبة أن ينوله بالفلوس خلال سبع سنوات، ناله أمّح بدمعتين. أشعل القائل سيجارته الخامسة، وابتسم قائلا: "أنا مش قلتلك أنا دخلت قص جحش على الهوا"، ثم نادى على النادل كي يدفع حسابنا ونمشي.