جهل الجهّال و"استقلال إسرائيل"

جهل الجهّال و"استقلال إسرائيل"

26 ابريل 2021
+ الخط -

أن يتحدّث شخص ما عن التاريخ من دون دراية أو معرفة، لا يعني أنه ملمٌّ بما يتحدّث عنه، فالمعرفة بالتاريخ أسمى قيم المعرفة، والجهل به من أحطّ قيم الجهل والتجهيل، تلك التي باتت سمة عصر التطبيع والتطويع، كما والتطوّع إلى جانب العدو في ازدراء الذات، قبل ازدراء الشقيق والأهل، وكذا التاريخ الأكثر واقعية من تلك التاريخانية التوراتية واللاهوتية التي جعل بعضهم منها أيقونة "قدس أقداس" تاريخ متخيل، مليء بالخرافات والأساطير، مسكونٍ بالاستيطان والاغتصاب، وطرد أصحاب الأرض وتشريدهم، وزرع مستعمراتٍ في بياراتهم وبساتينهم. كل ذلك يحصل على قاعدة من ادّعاءات زائفة عن "أرض ميعاد" مزعوم وموهوم؛ هو صنيعة مخيلاتٍ لاهوتية مريضة، كرّسها كهنة التوراة وزعماء قبائلهم، للسيطرة على عقول مجتمعاتهم وتجمعاتهم، ووعدهم بأرضٍ ليست لهم عبر "رب خصوصي" خاصّ بهم، وتلك قمة الأسطرة الكهنوتية التي لم تقدّم للتاريخ سوى نفيه، واستبداله بتاريخانيةٍ لا أساس لها ولا قواعد راسخة.
عن أي استقلال يتحدّث بعضهم، وعمن وممن؟ فتلك "الإسرائيل" ليست شعبا ولم تكن دولة أو كيانا مستعمَرا، حتى يحق لها أن تقرّر مصيرها، وصولا إلى من يمنحها استقلالها عن طرف كولونيالي، فالانتداب البريطاني كان يحتل وطن الشعب الفلسطيني ودولته، ولم يكن يحتل دولةً سُميت فيما بعد "إسرائيل". فهل كان "استقلال إسرائيل" عن الشعب الفلسطيني ودولته، حتى يحتفي بعض الجهّال الجهلة بهذا الاستقلال المزعوم؟

يجري إسكات التاريخ الفلسطيني، في وقتٍ نحن أحوج ما نكون فيه لإنطاق هذا التاريخ، وتسليط الأضواء الساطعة عليه، لفضح تزييفات التاريخانية التوراتية

لقد سلّمت بريطانيا فلسطين للحركة الصهيونية منذ ما قبل العام 1917، عبر تشجيع الهجرات اليهودية إليها، وتوّجت ذلك بصدور وعد بلفور، واستمرت تنتج وقائع على الأرض، ساهمت فيما بعد بإيجاد نكبة الشعب الفلسطيني، المستمرّة منذ 73 عاما، مؤسسة كيانا ليهود العالم، من جنسيات دولٍ متعدّدةٍ وقومياتٍ وأعراقٍ مختلفة، بديلا لدولة فلسطينية مفترضة، كان الشعب الفلسطيني يومها جديرا بالحصول على استقلاله وتقرير مصيره، واستكمال بناء كامل بنى دولته الفلسطينية المستقلة حقا، لكن الوضع العربي الرسمي، وزعاماته المتخاذلة والعميلة، لم يكن على قدر المهمّة التاريخية الملقاة على عاتق الشعوب العربية، لدعم الخيار الوطني لشعب فلسطين الذي عمل الغرب الاستعماري على تطويقه، وإجهاض حركات وخيارات مقاومة قوى الانتداب وقوة الاحتلال الصهيوني الجديدة التي منحها بعضهم يومها مباركته، ويمنحها بعضهم اليوم تهانيهم باحتلالها فلسطين وتشريد شعبها، فأي صفاقةٍ تلك الخيانات المتواصلة لطعن شعب شقيق في ظهور أبنائه وبناته، إنكارا لفلسطينية وعروبة الأرض.
وانسجاما مع هذه المواقف المستمرة، وفي ظل تماهيات معمّقة، انساق باحثون عرب، ومنهم فلسطينيون، إلى تبني (وترويج) المقولات التوراتية المبتدعة والزائفة، تلك التي أسّست لتاريخ عنصري، سياسي ولاهوتي، كانت بلادنا، بل والعالم كله، ضحيته النازفة، منذ ما قبل تأسيس الحركة الصهيونية بشكلها "المعاصر"، وصولاً إلى "نجاحها" في إقامة "وطن قومي" استند إلى "حق تاريخي" موهوم ومزعوم، أيدته وما زالت تؤيده وتوافق عليه "صهيونيات" عدة، سياسية ودينية. المسيحية الصهيونية، كما باتت تعلن عن نفسها في أميركا وأوروبا وأطراف العالم الأخرى، وقوى "الإبراهيمية" الجديدة، من أبرز حماة هذا "الحق" في الهيمنة على التاريخ وداعميه، تبريراً للسيطرة على صيرورات الواقع العملي في نطاق الوجود الكوني الراهن، وليس الهيمنة على فلسطين باسم هذا "الحق" المزعوم فقط، ولكن انسياقاً وانسجاماً معه؛ يجري إسكات التاريخ الفلسطيني، في وقتٍ نحن أحوج ما نكون فيه لإنطاق هذا التاريخ، وتسليط الأضواء الساطعة عليه، لفضح تزييفات التاريخانية التوراتية.

يلفت الانتباه غياب تاريخ فلسطيني للماضي، أي تاريخ مكتوب من منظور فلسطيني

في مؤلفه الرائع "اختلاق إسرائيل القديمة .."، تحمّل أستاذ الدراسات الدينية، كيث وايتلام، مشقات فضح القائمين على الدراسات التوراتية والباحثين الذين روّجوا وجود "إسرائيل القديمة"، ملاحظا أنه "وعلى الرغم من وجود مفاهيم تاريخية قومية مهمة في البلدان الحديثة المختلفة في الشرق الأوسط، وهذه المفاهيم توفر فهماً مقابلاً وأساسياً للمفاهيم الغربية وتمثلها لتاريخ المنطقة، فإن ما يلفت الانتباه غياب تاريخ فلسطيني للماضي، أي تاريخ مكتوب من منظور فلسطيني. ومن الطبيعي أن يكون ذلك المنظور الفلسطيني قد ركّز على الفترة الحديثة في صراعه (مع الصهيونية) لإثبات هويته القومية، وللحصول على دولةٍ خاصة به، غير أن التاريخ القديم، على ما نعتقد، قد تم التنازل عنه لمصلحة الغرب ودولة إسرائيل الحديثة، إلا أنه ومن منظور أوسع وأطول زمناً، فإن تاريخ إسرائيل القديم يبدو كلحظة قصيرة في التاريخ الفلسطيني الطويل، لذلك فإنه من المناسب طبعاً للمؤرّخين أن يركّزوا على هذه الحقب القصيرة من التاريخ أو المجتمعات المعنية فيها".
وحتى لا نقع اليوم في شراك خدع "التشارك اللاهوتي"، لجرّ شعوبنا إلى مستنقعات "يهودية الأرض والدولة"، تنبغي العودة إلى تلميع سردية الرواية الفلسطينية، كما هي، وكما كانت على الدوام: النقيض التاريخي لسردية الرواية التوراتية القديمة أولا، وتلك اليهودية – الإسرائيلية على ما صارته اليوم ثانيا، وهذا يتطلّب جهدا، بل جهودا جبارة يتسع نطاقها بدءا من الفلسطينيين أنفسهم، لا سيما الذين لم تخدعهم سردية الرواية التوراتية، ولا صادقوا بعضها لاهوتيا، وصولا إلى كل الذين يقفون مع الحق التاريخي لفلسطين وطنا، والحقوق التاريخية الثابتة لشعبها؛ كحق العودة وحق تقرير المصير، وحق البقاء في وطن الآباء والأجداد.

ما يجري رسمه والتخطيط له تسوويا للفلسطينيين دولة بلا مقوّمات دولة؛ فلا هي تحقّق استعادة القدس الشرقية أو قسم منها، ولا هي تعيد اللاجئين أو قسما منهم إلى ديارهم

لهذا يخطئ، بل ويراكم خطايا بالجملة، كل من يعتقد أن مسألة "يهودية الدولة" لا تعنيه، ولا تعني الشعب الفلسطيني، بل إن من صميم ما تعنيه هذه المسألة هو فرض استسلام غير مشروط، ليس على الفلسطينيين فحسب، بل على كل الأشقاء والأصدقاء، مقدمة للفوز فيما بعد بمفاوضات تسوية؛ يجري تصميمها على ألاّ تقر بأي شكل بالحق التاريخي للفلسطينيين في أرض وطنهم، حتى لو جرى الإقرار بدولة [فلسطينية] منزوعة السلاح، ومنزوعة منها كل الكتل الاستيطانية الكبرى، ومنزوعة منها أحقّيتها في السيادة الأمنية والحدودية واستقلالها الاقتصادي.
باختصار.. ما يجري رسمه والتخطيط له تسوويا للفلسطينيين دولة بلا مقوّمات دولة؛ فلا هي تحقّق استعادة القدس الشرقية أو قسم منها، ولا هي تعيد اللاجئين أو قسما منهم إلى ديارهم وممتلكاتهم التي شرّدوا منها، ولا يمكنها إصدار عملتها الخاصة، فأي دولةٍ هي هذه الدولة؛ ناهيك عن أن الاستيطان الزاحف ومخططاته الهيكلية، لا يبقي ولن يبقي للفلسطينيين سوى إدارة بلدية، لا تمتلك حتى صلاحياتها البلدية المتعارف عليها.
وإذا كان الافتتان بإسرائيل هو الذي هيمن على علم الآثار التوراتي، فإن الافتتان بخرافات التورية التاريخانية، وهي تمضي بعملية تصديق ما لا يصدّق، ولا يمكن القبول به عقلياً ومنطقياً من سيل تلك التلفيقات التي أضفت على "إسرائيل التوراتية" تبريرات الوجود في الماضي، من أجل القبول بها "دولة واقعية" في الحاضر، دولة للعنصرية الصهيونية السياسية واللاهوتية، وهي التي لم تستطع، على الرغم من مرور أكثر من سبعين عاما على إقامتها، ومرور 54 عاماً على احتلال البقية الباقية من فلسطين، أن تعثر على أي لقيةٍ من اللقى التاريخية التي تثبت مزاعم توراتها وتزييفاتها التاريخانية، لا في شأن الأشخاص ولا في شأن المواقع، ولا الأحداث المسرودة عن تلك الحقب التي لم تكن ذات طابع "إسرائيلي" بالمطلق، قدر ما تثبت النصوص والنقوش والآثار التاريخية أن هذه الحقب إنما عبقت على الدوام برائحةٍ عربيةٍ كنعانية. ولكن للأسف لم يستطع الكنعانيون، ولا الفلسطينيون فيما بعد، أن يحتلوا مسرح الرواية التاريخية، أو أن يحرّروا التاريخ أو يستعيدوه من كل مجالات الهيمنة والسيطرة عليه.

الصراع حول التاريخ الفلسطيني في بداياته الأولى، وحتى يكتب له النجاح، يتطلب مساهمات عديدة هادفة إلى إخراجنا من عتمة التاريخانية الزائفة إلى فضاء التاريخ

أخيرا، ومرة أخرى، يمكن العودة إلى نص مقال عالم الآثار الاسرائيلي، زئيف هيرتسوغ، حيث أكد "أنه بعد 70 عاماً من الحفريات المكثفة، توصل علماء الآثار إلى نتيجة مخيفة: لم يكن هناك أي شيء على الإطلاق، حكايات الآباء مجرّد أساطير، لم نهبط إلى مصر ولم نصعد من هناك، لم نحتل البلاد (فلسطين) ولا ذكر لإمبراطورية داود وسليمان. الباحثون والمهتمون يعرفون هذه الحقائق منذ زمن، أما المجتمع (الاسرائيلي) فلا". .. على الرغم من ذلك كله، وكما يكتب وايتلام، فإن الصراع حول التاريخ الفلسطيني في بداياته الأولى، وحتى يكتب له النجاح، فذلك يتطلب مساهمات عديدة هادفة إلى إخراجنا من عتمة التاريخانية الزائفة إلى فضاء التاريخ، ومن ظلمة المكبوت والمسكوت عنه إلى أنوار العقل ومناراته؛ وبما ينسجم مع ضرورات تعرية المصالح السياسية والدينية التي كانت الدافع وراء اختلاق إسرائيل القديمة في خطاب الدراسات التوراتية. كما يتطلب تعرية ما يقابلها من مصالح سياسية ودينية معاصرة، اعتادت تزييف التاريخ والحقائق والوقائع ضمن علاقاتٍ زبائنيةٍ وتطبيعيةٍ وتجاريةٍ واستثمارية، وفضح ألاعيب السادة الحكام المحكومين لزعامات المافيات والكارتيلات المكونة لإمبرياليات الغرب المعاصر، في تبنيه كيانا احتلاليا استيطانيا وظيفته الرئيسة الدفاع وحماية أمن المصالح الاستراتيجية للرأسمال العالمي المتعدّد الجنسيات.

47584A08-581B-42EA-A993-63CB54048E47
ماجد الشيخ

كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في لبنان. مواليد 1954. عمل في الصحافة الكويتية منذ منتصف السبعينات إلى 1986، أقام في قبرص، وعمل مراسلا لصحف عربية. ينشر مقالاته ودراساته في عدة صحف لبنانية وعربية.