جنون الرؤساء في عصر الحروب القذرة؟

12 يناير 2025

(أيمن صلاح طاهر)

+ الخط -

أصبح خطاب العجرفة والتعالي والتهديد الصريح معهوداً لدى مسؤولين كبار في عديد الدول الغربية، خصوصاً تجاه دول الجنوب. ويعتبر الرئيس ترامب مثالاً صارخاً على ذلك، حيث هدّد دول الشرق الأوسط بفتح أبواب الجحيم في حال عدم التوصل إلى اتفاق بين إسرائيل والمقاومة في مسألة المحتجزين الإسرائيليين لدى حركة حماس، متناسياً أن الفلسطينيين يعيشون فعلاً في جهنم بسبب حرب الإبادة التي يتعرّضون لها منذ ما يزيد على سنة وثلاثة أشهر. ومن جهة أخرى، شنّ الرئيس الفرنسي ماكرون هجوماً على الرؤساء الأفارقة الذين لم يعترفوا بأفضال بلاده ومقاومتها الإرهاب في منطقة الصحراء، ولولا ذلك لما تمتّعوا بالاستقرار. وهي تصريحات دلت على حالة "عمى تصل إلى درجة الجنون"، حسب تعبير بيان للحزب الراديكالي الفرنسي. فالرئيس ماكرون لا تزال ترنّ في أذنيه صرخة رئيسة الحكومة الإيطالية، وهي تعلن أن فرنسا هي المسؤولة عن تفقير الدول الأفريقية التي استعمرتها، ونتجت من ذلك الهجرات السرّية المتتالية للأفارقة الذين يتوجهون مباشرة إلى الساحل الإيطالي.

عاد العالم إلى أجواء الحقبة الاستعمارية والرغبة في الهيمنة والتوسع. وهي الحقبة التي خاضت شعوب الجنوب حروباً فظيعة من أجل التحرّر والانعتاق، ودفعت في سبيل ذلك الملايين من خيرة أبنائها وبناتها. وقبل أن تغادر الدول الغربية مستعمراتها القديمة استنزفتها، وعملت على التحكّم في ثرواتها عبر اتفاقيات اقتصادية وسياسية مهينة حتى تطيل تبعيتها لها. ليس هذه ادّعاءات، بل حقائق مثبتة في مراجعهم التاريخية، وفي الكتب التي ألفها ووثقها كبار مثقفيهم ومؤرّخيهم.

ليس المطلوب الآن الحديث عن الماضي الاستعماري، ولكن ما أثار النخب والحكومات في دول الجنوب وغيرها هذه الرغبة الجامحة لتغيير الخريطة العالمية التي وضعتها الدول الغربية نفسها بعد الحرب العالمية الثانية. فالخطاب اليميني المتطرّف بدأ ينقلب على أصحابه. وما إعلان ترامب نيته إلحاق كندا وجزيرة غرينلاند وقناة بنما، سلمياً أو عسكرياً، وشنّ الحرب الاقتصادية، إلا تأكيد أن أميركا التي عملت على توريط أوروبا في حرب أوكرانيا، تعمل حالياً على مزيد من إضعافها من خلال رغبة ترامب في تغيير الجغرافيا، من تعميق فارق القوة وقلب موازين القوى بينها وبين الصين وروسيا. إنه الجنون الذي سيؤدّي إلى إضعاف الغرب وربما تدميره، ففرنسا لم تتساءل جدّياً بشأن الأسباب العميقة التي أدّت الى طردها من مناطق نفوذها في القارّة الأفريقية. وبدل أن تفتح الملفات وتراجع السياسات وتعيد بناء ثوابت سياستها الخارجية، راح الرئيس ماكرون في خطاب غاضب ومفعم بالمغالطات يهين بعض الرؤساء الأفارقة، بعنجهية قد تلحق أضراراً فادحة بمصالح فرنسا العليا.

وقول وزير الخارجية الفرنسي: "دخلنا فترة يكون فيها البقاء للأقوى"، اعتراف يتماشى مع ما أعلنه ماكرون قبل أيام، بأن "الأمر بسيط، العالم يتكون من آكلي الأعشاب وآكلي اللحوم"، وبناءً عليه "دعونا نتوقف عن رعي العشب، يجب أن تصبح أوروبا آكلة اللحوم". وقد كانت أوروبا، أو بالأحرى جزء منها، من أكلة اللحوم ثم تظاهرت بالتوقف عن تلك الرغبة الحيوانية، وها هو ماكرون يكشف عن وجود انتكاسة تتجلّى في عودة أوروبا إلى ماضيها القائم على استعمال القوة دفاعاً عن مصالحها وسياساتها العدوانية ضد "المستعمرات السابقة".

هكذا تتعزّز انتكاسة القيم ودولة القانون. القوة هي الفيصل والحكم وليست الحقوق والمواثيق الدولية. وبناءً عليه، يجب تأديب محكمة العدل الدولية ومعاقبة قضاتها كما فعل الكونغرس الأميركي، لأنها تجرّأت على الكيان الصهيوني وسوّت بينه وبين حركة حماس، واتهمت إسرائيل بممارسة الإبادة الجماعية. هذا يعني أن التاريخ ينتكس ويسير إلى الخلف. الرسالة واضحة، وعلى شعوب الجنوب أن تخاف وتقبل بأن تكون بمثابة الحيوانات العاشبة، لا تطالب ولا تحتج، وإلا فإنها ستفترس. أما الحيوانات اللاحمة داخل المعسكر الغربي، فستنهش بعضها حتى الموت، نتيجة عصر الحروب الذي دخلناه رغماً عنّا.

266D5D6F-83D2-4CAD-BB85-E2BADDBC78E9
صلاح الدين الجورشي

مدير مكتب "العربي الجديد" في تونس