جنحت سفينة "فتح" وتجَنّحت

جنحت سفينة "فتح" وتجَنّحت

02 ابريل 2021
+ الخط -

قبل أن يتنفّس الصبح، يقتحم المدرّب أبو ناصر ببسطاره الأسود الخيمة، يمرّ فوق الأجساد الصغيرة النائمة على فرشات إسفنج، ويردّد بصوته الجهوري الخشن: "دربي مرّ ودربك مرّ، ادعس فوق ضلوعي ومُرْ.."، واحدة من أناشيد الثورة الفلسطينية التي حفظها الأطفال عن ظهر قلب في معسكر حركة فتح للأشبال في مدينة عدرا السورية (شمال شرق دمشق). يقفز أشبال "فتح" سريعاً للالتحاق بطابور الصباح، وعلى إيقاع خبطات أقدامهم الطرية يردّدون: "أنا ابن فتحٍ ما هتفت لغيرها ولجيشها المقدام صانع عودتي". ينتظم الأشبال والزهرات لتحية العلم، يجدّدون القسم بأنها ثورة حتى النصر. كانت معسكرات الأشبال مصانع للفدائيين وخزّاناً للثورة. في ساعات المساء، يتحلق الأشبال في جلسات التعبئة والتوجيه السياسي، يتلقون الدروس في "النقد والنقد الذاتي"، ويراجعون أدبيات الثورة التي صاغها أبو علي إياد (وليد شريم) وصلاح خلف وخالد الحسن وغيرهم من قادة الثورة الأوائل. كان الزاد الثقافي لا يقلّ أهمية عن التدريب الميداني، فالبندقية المسيّسة صانعة الانتصار، والبندقية الجاهلة قاطعة طريق، هكذا كانت تنصّ أدبيات حركة فتح.

كانت "فتح" خيمة الكل الفلسطيني، يستظلّ في فيئها اليساري والشيوعي والإسلامي والمسيحي والقومي والإخواني والملحد. وكان السواد الأعظم من المنتمين لها غير مؤدلجين، وغير مهتمين بأي أفكار أو نظريات. لا يهمّهم الصراع الطبقي، وغير منشغلين بالبحث عن إجابات لسؤال "ما العمل". في ذلك الزمن، كان كل فلسطيني "فتحاويا" حتى يثبت العكس، ولم يكن كل فتحاوي فلسطينيا، فقد انضم للحركة فدائيون من لبنان والعراق وسورية والأردن والمغرب واليمن وتونس، وكان فيها متطوعون من باكستان وكوبا والصين وروسيا ودول غربية كثيرة. في ذلك الزمن، كان الآباء المؤسسون قدوة، ببدلاتهم "السفاري" الكاكية، وحياتهم المتواضعة وهم يتنقلون بين قواعد الفدائيين ومكاتب متواضعة. لم يكونوا قدّيسين، بل كانوا عرضة للنقد من الكوادر والعناصر. كانوا يتناكفون حتى يتكاتفوا، وكانوا يختلفون في الرأي، حتى يتفقوا على أصوبه.

تغيرت "فتح" كثيراً منذ غادرت الخنادق وانتقلت إلى الفنادق والمكاتب. وتغيّرت أكثر عندما نامت مع العدو في سرير "أوسلو"، وراحت في غيبوبة عميقة. لم يبق منها إلا بعض الأغاني القديمة التي يردّدها الفتحاويون بصوتٍ خافتٍ خشية إدانتهم بالتحريض، حسب نصوص اتفاق أوسلو وملحقاته. لم يبق من "فتح" إلا فتافيت تراث لا يكفّ بعضهم عن اجتراره، لا بهدف إحيائه أو الاستفادة منه، ولكن بغية الاتكاء عليه للصعود نحو منصبٍ أو رتبة. جنحت سفينة "فتح"، وضلّت بوصلتها. صار للحركة أجهزة أمنية وحرس رئاسي. لا قادة قدوة في "فتح"، بل أصحاب سيادة بـ"حجم الوطن" القزم. لم تنتصر الثورة، وماتت الفكرة، وتحوّلت "فتح" إلى شركة قطاع خاص، أكبر من الوطن.

اليوم، فتحات جديدة تمزق سفينة "فتح"، صحيح أنها لم تصل إلى حد الفتق أو الانشقاق بعد، ولكنها تُنذر بما هو قادم من تمزيق الحركة الفلسطينية، وطيّ صفحات كثيرة من تاريخ فلسطيني، لا يمكن التقليل من أهميته، أو الاستخفاف بمنجزاته. يتنافس الفتحاويون على انتخاباتٍ، تجري تحت بساطير الاحتلال، ببرامج انتخابية واطئة السقف، لا تطاول البرامج الانتخابية للمجالس المحلية، تتخللها شعارات خاوية من قبيل "فتح حامية المشروع الوطني"، لا ندري عن أي مشروع وطني يتحدّثون؟ وهل سيسمح كميل أبو ركن لأي مشروع وطني منافسة مشاريع التنسيق الأمني؟

ما آلت إليه حركة فتح، وغيرها من فصائل الحركة الوطنية الفلسطينية، يجرح القلب، ولكنها حتمية التاريخ في الولادة والموت. كل الأشياء تولد وتكبر وتهرم وتموت. وفي سيرورة الحياة تكون ميلادات جديدة لأزمان جديدة. قد تتشظّى "فتح"، وهذا ليس بالحدث السيئ بالمطلق، فكما يقول المثل الفرنسي: "إذا أردنا صناعة العجّة فلا بد من تكسير البيض". وبهذا المعنى، إذا أردنا الخروج من نفق "أوسلو" واشتقاق مسار جديد للمشروع الوطني الفلسطيني، فلا ضرر من تكسير بعض البيض، ورؤوسٍ كثيرة.

AE03ED80-FBD8-4FF6-84BD-F58B9F6BBC73
نواف التميمي
أستاذ مساعد في برنامج الصحافة بمعهد الدوحة للدراسات العليا منذ العام 2017. حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة غرب لندن في المملكة المتحدة. له ما يزيد عن 25 سنة من الخبرة المهنية والأكاديمية. يعمل حالياً على دراسات تتعلق بالإعلام وعلاقته بالمجال العام والمشاركة السياسية، وكذلك الأساليب والأدوات الجديدة في توجيه الرأي العام وهندسة الجمهور.