جموح القوة وجنوحها .. الولايات المتحدة نموذجاً
حلّت، في التاسع من شهر إبريل/ نيسان الجاري الذكرى الثامنة عشرة لسقوط بغداد بأيدي القوات الأميركية الغازية، وانهيار نظام الرئيس العراقي الراحل، صدّام حسين، وإعلان احتلال العراق رسمياً. ويوم الأربعاء الماضي، أعلن الرئيس الأميركي، جو بايدن، قراره النهائي ببدء سحب القوات الأميركية من أفغانستان، مطلع الشهر المقبل (مايو/ أيار)، على أن يكتمل الانسحاب قبل الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول من هذا العام. وتعتبر حرب أفغانستان أطول حربٍ خاضتها الولايات المتحدة في تاريخها، إذ دخلت عامها العشرين. وكانت إدارة جورج بوش الابن قد غزت ذلك البلد في أكتوبر/ تشرين الأول عام 2001، بعد أقل من شهر على هجمات "11 سبتمبر" من العام نفسه في كل من نيويورك وواشنطن، وتبنّى المسؤولية عنها تنظيم القاعدة الذي كانت قيادته ومعسكراته الأساسية تتّخذ من أفغانستان ملاذاً آمناً. وما بين الحربين تكمن بعض أبعاد قصة استنزاف القوة والنفوذ الأميركيين، من حيث أرادت الولايات المتحدة أن تعزّزهما وتسطر بالدماء وقوة السلاح أحادية القطبية عالمياً في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي مطلع تسعينيات القرن الماضي، ولكن الرياح لا تجري دوماً كما تشتهي السفن. كما أن القوة، إن أفلتت من عقالها، والعظمة إن جمحت، تصبحان عبئاً لا رصيداً.
يعتقد أغلب الساسة الأميركيين أن الغزو الأميركي لأفغانستان كان "حرباً ضرورة"، ولكنهم يختلفون على الطريقة التي أديرت بها عبر ثلاث إدارات متتالية، هي إدارات بوش وباراك أوباما ودونالد ترامب. عبثاً حاول أوباما وترامب الانسحاب من أفغانستان، ولكن المؤسسة العسكرية بقيت تعوق مساعيهما. واليوم، يؤكّد بايدن أنه لن يُوَرِّثَ هذه الحرب لرئيسٍ خامس، على أساس أنه الرابع الذي يرثها. وهو قد شدّد، في حيثيات قراره، على أن الإبقاء على القوات الأميركية في مكان واحد أمر غير منطقي في ظل تصاعد التهديدات العالمية، فيما يبدو أنها إشارة إلى تصاعد التحدّيين، الصيني في المنطقة المعروفة بـ"آسيا المحيط الهادئ"، والروسي على أعتاب أوروبا الشرقية وفي قلب الشرق الأوسط. ويبقى أن نرى وننتظر إن كان سينجح بايدن حيث فشل أربعة رؤساء قبله. أما في ما يتعلق بغزو العراق، فإن ساسة أميركيين كثيرين يعتبرون أنها كانت "حرب خيار" لا "حرب ضرورة"، وأنها كانت خطأً كارثياً ارتكبته إدارة بوش عام 2003، تسبّب في تعزيز "طالبان" نفوذها في أفغانستان، واستنزفت الولايات المتحدة استراتيجياً وعسكرياً واقتصادياً، وأطلقت موجةً جديدةً مما تسميه واشنطن "الإرهاب الإسلامي"، وزعزعت استقرار منطقة الشرق الأوسط الهشّة أصلاً.
الصعود الصيني الاقتصادي والعسكري أصبح يهدّد بجدّية الهيمنة الأميركية عالمياً، وهو ما دفع إدارات أوباما وترامب، وبايدن اليوم، لمحاولة كبحه
في عام 2019 أفادت دراسة صادرة عن معهد واستون للعلاقات الدولية والعامة في جامعة براون الأميركية بأن "الحرب على الإرهاب" في الشرق الأوسط وآسيا وأفريقيا، والتي توسعت لتشمل 80 دولة، بما فيها أفغانستان والعراق وسورية واليمن والصومال.. إلخ، كلفت خزينة الولايات المتحدة، منذ سبتمبر / أيلول 2001 وحتى سبتمبر / أيلول 2019، أكثر من 6.4 تريليونات دولار. وهذا لا يأخذ في الحسبان نسب التضخم والفوائد، كما أنه لا يشمل عامي 2020 و2021. وليست هذه الكلفة بشيء إذا ما قورنت بالكلفة البشرية، إذ تذكر الدراسة نفسها أن أكثر من 800 ألف إنسان قتلوا جرّاء تلك الصراعات، أغلبهم مدنيون، وأن أكثر من 21 مليون شخص شرّدوا. مرة أخرى، لا تشمل هذه الأرقام عامي 2020 و2021. التكاليف المباشرة لحربي العراق وأفغانستان وحدهما تقترب، إلى الآن، من حاجز الأربعة تريليونات دولار. أيضاً، هذه الأرقام مضللة، فهي لا تأخذ في الاعتبار نسب التضخم والفوائد وتكاليف الرعاية الصحية للجنود الأميركيين المصابين، وما إلى ذلك من أمور.
المفارقة أن عشرين عاماً من هذه الحروب المتواصلة، وعلى الرغم من كل العظمة والقوة العسكرية، إلا أن الولايات المتحدة لم تتمكّن من الانتصار فيها. في أفغانستان، تفاوض منذ إدارة بوش حركة طالبان بحثاً عن انسحاب يحفظ ماء الوجه. أما العراق فقد تحوّل إلى ساحة نفوذ إيرانية تستخدمها طهران لتصفية حسابتها العالقة مع واشنطن. لقد أثبت عقدان من "الحرب العالمية على الإرهاب" أن أي قوة عسكرية تقليدية، مهما بلغت من العظمة والتطور، ليست قادرة على حسم حروب عصاباتٍ في ساحات دولية مفتوحة. أيضاً، أثبت العقدان الماضيان أن المبالغة في الاعتماد على القوة العسكرية يكون لها ارتدادات سلبية على الطرف الذي يظن أنه يملك مقوماتها. كما أن ثمَّة درساً ثالثاً قاسياً تعلمته واشنطن مفاده بأن الإيديولوجيا لا ينبغي أن تكون البوصلة التي تسترشد بها القوى العظمى في وضع استراتيجياتها العملية. لقد كان لنظريات "المحافظين الجدد" الطوباوية تداعيات كارثية على الولايات المتحدة، من ذلك إصرارهم على ضرورة حفاظها على عالم تكون فيه هي القوة العالمية الوحيدة المهيمنة، وهوسهم المطلق بالقوة العسكرية الأميركية الهائلة.
يبدو أن الولايات المتحدة تعاني من عارضٍ عدم القدرة على تجنّب المعارك الهامشية في ظل ضغوط اللوبيات القوية
اليوم نشاهد بأم أعيننا تهاوي تلك النظريات الإيديولوجية الواهمة، كما نشاهد تداعياتها الاستراتيجية. تكفي الإشارة إلى الصعود الصيني الاقتصادي والعسكري الذي أصبح يهدّد بجدّية الهيمنة الأميركية عالمياً، وهو ما دفع إدارات أوباما وترامب، وبايدن اليوم، لمحاولة كبحه واحتوائه. كانت بكين تتابع بشغف التورّط الأميركي تلو الآخر في معارك هامشية، في حين تُراكم هي قوتها بصمت وهدوء، حتى دقّت ساعة الحقيقة، وأصبحت عصية على الاحتواء. هذا ليس تقديراً شخصياً، بل يجد تعضيداً له في تصريحات رسمية أميركية. وهذا هو بايدن يقول الشهر الماضي (مارس/ آذار) إن الصين تسعى إلى أن تصبح أغنى وأقوى دولة في العالم، وفرض استبدادها القمعيِّ عليه، وهو ما لن تسمح به واشنطن. أما وزير دفاعه، لويد أوستين، فكان أكثر وضوحاً، الشهر الماضي، حين قال إن الصين تمثل "تهديداً متنامياً". وأضاف، إنه بينما ركزت الولايات المتحدة على الشرق الأوسط خلال العقدين الماضيين، "عملت الصين على بناء قدرة عسكرية حديثة"، وهو ما أدّى إلى تآكل ميزة الولايات المتحدة التنافسية عسكرياً، وإن كانت "لا زالت متفوقة (على الصين) وسنضاعف هذا التوفق من الآن فصاعداً".
ولكن، هل تستطيع الولايات المتحدة، فعلاً، أن تخفّف من تورّطها في الشرق الأوسط والتفرّغ لاحتواء المارد الصيني، كما يقول أوستين؟ أشك في ذلك، فقبل أيام فقط كان أوستين نفسه في إسرائيل يتعهد لها بضمان تفوقها العسكري والحفاظ على أمنها، ويؤكد لها أن أي اتفاق نووي جديد مع إيران لن يكون على حسابها. بمعنى آخر، يبدو أن الولايات المتحدة تعاني من عارضٍ مفاده عدم القدرة على تجنّب المعارك الهامشية في ظل ضغوط اللوبيات القوية في واشنطن.
باختصار، امتلاك أدوات "القوة الغاشمة"، كما وصفها يوماً الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، وهو يهدّد أبناء شعبه في سيناء، لا يعني ضمان النصر. وإذا كانت "القوة الغاشمة" الأميركية الهائلة فشلت في تحقيق ذلك أمام تنظيماتٍ تشنّ حروب عصابات عليها، وتسعى إلى إجهاضها عالمياً عبر استراتيجية "الألف جرح"، بمعنى استنزافها بشكل تدريجي وبطيء حتى تنهار، فإن دولاً صغيرة وهامشية، لا تملك مقدّرات طبيعية، ولا كفاءات فذّة تدير كفّة القيادة، لن تنجح أين فشلت القوة الأعظم. إنها السنن الكونية التي يستعصي على بعضهم فهمها.