جمال عبد الناصر... ما فعله الابن بالأب

30 ابريل 2025

(جمال عبد الناصر ونجله عبد الحكيم)

+ الخط -

حسنًا فعلت مكتبة الإسكندرية حين أظهرت المحضر الرسمي الكامل لتفريغ المحادثة بين جمال عبد الناصر ومعمّر القذافي، والتي يعود تاريخها إلى 3 أغسطس/ آب 1973 ونشرتها مبتورة، مع سبق الإصرار والتعمّد، صفحة مملوكة لابن عبد الناصر الأصغر عبد الحكيم.

من المهم الإشارة، في البداية، إلى أنّ إخفاء أجزاء بعينها من محضر رسمي ليس له تعريفٌ آخر سوى التزوير أو التزييف أو بالحدّ الأدنى التحريف في التاريخ، وذلك قبل الوقوف عند الأجزاء التي اقتُطعت من السياق، بحيث جرى التركيز على النقاط الأخرى التي أُبرزت بشكل مكثّف، بحيث يظهر معها عبد الناصر كما لو كان طرفاً رئيساً  في منظومة الخذلان الرسمي العربي لمشروع المقاومة الفلسطينية هذه الأيّام، وواحداً من المهرولين للجلوس في قافلة السلام الإبراهيمي، ذلك الاختراع الأميركي الذي يحاول فرض الكيان الصهيوني متحكّماً في الشرق الأوسط.

من بين النقاط التي أسقطها التسجيل الذي أذاعته صفحة عبد الحكيم عبد الناصر عمداً تفسيرُه القبول بمبادرة روجرز التي اضطرّت لطرحها واشنطن بعد تصاعد العمليات البطولية للقوّات المصرية في حرب الاستنزاف وصراخ العدو الصهيوني من نزيف الخسائر في قوّاته ومعداته العسكرية، إذ يكشف عبد الناصر للقذافي أنّ القبول بمبادرة وقف القتال ثلاثة أشهر يوفّر للقوات المصرية الفرصة لعبور قناة السويس ومعالجة ثغرات التفوّق الجوي الإسرائيلي باستكمال حائط الصواريخ في إطار التجهيز للمعركة الكبرى القادمة لا محالة، وتشديده على القذافي بألا يطّلع أحدا على هذه المعلومة، بالإضافة إلى كلام آخر فحواه أنّ عبد الناصر يؤمن بأنه لا حلول سلمية مع هذا العدو.

هذا الموقف من عبد الناصر، وكما ورد في المحادثة السرّية الخاصة مع القذافي، يتطابق مع الموقف الذي تحرّك على أرض الواقع، إذ لم يسع الرجل إلى التطبيع، أو التعاطي مع وهم السلام الزائف، كما تؤكّده شهادات منشورة لعسكريين وسياسيين وإعلاميين من الدوائر القريبة من عبد الناصر في أيّامه الأخيرة، تؤكّد أنّ قضية القضايا والهم الأوّل والشغل الشاغل للرئيس الذي طعنته هزيمة 1967 في قلبه كان التجهيز لمعركة الثأر وتحرير الأرض العربية بالقوّة.

أولى هذه الشهادات من رجلٍ يمكن اعتباره واحداً من المتضرّرين من جمال عبد الناصر، وقد عُزِل من منصبه مديراً لإذاعة "صوت العرب" عقاباً له على التنديد بقبول مبادرة روجرز، بوصفها خيانة للكفاح والنضال قد يتعرّض معها الرئيس للاغتيال، هذا الرجل هو الإذاعي الأشهر في ذلك الوقت، والذي سمعت منه مباشرة في العام 2001 في منزله بحي الزمالك، وهو ما نشره في ما بعد في حوار مع مجلة الوسط، تقييمه لأهميّة القضية الفلسطينية عند عبد الناصر بعد جرح النكسة وجراح الهجوم عليه من أطراف فلسطينية وعربية. قال أحمد سعيد في شهادته: "فلسطين بالنسبة إليه كانت قضية مبدأ، فاحتمالات أن يساوم عبدالناصر في 1954، 1955، 1956، 1957 بل حتى بعد هزيمة 1967 وما بعدها يجب أن تتبدّد تماماً من عقل أي إنسان. فمهما قيل عن اتصالاتٍ تمت سواء من أحمد حمروش أو عبدالحميد صادق، أو عن لقاءات في باريس مع غولدن برج أو مع غيره، كان هذا كله نوعاً من العمل السياسي من قبيل تخدير العدو، لأن قضية فلسطين بالنسبة لعبد الناصر كانت تضم خطين رئيسيين، الأول أنها قضية مبدأ والثاني أنها معركة مؤجلة وليست آنية وحتى التفكير في التسليح لم يكن لشيء سوى رد الاعتداء وليس للانتقال إلى مرحلة الهجوم، لأن تقديره وكذلك قدرات المنطقة العربية لا تسمح، كما أن قدرات مصر بمفردها لا تسمح والوضع السياسي العالمي لا يسمح. إضافة إلى أن هدفه كان صناعة الدولة- الطوق ومحاولة تحرير القرار العربي".

أما وزير الحربية الذي عيّنه عبد الناصر بعد النكسة مكلفّاً بإعادة بناء الجيش والاستعداد للمعركة، الفريق محمد فوزي، فقد اشتملت مذكّراته المنشورة على نصّ رسالة بخطّ الرئيس عقب فاجعة إحراق المسجد الأقصى على يد قوات العدو الصهيوني، أغسطس/ أب 1969، وفيها يقول: "مع كل مشاعر الغضب الجارف والحزن العميق والآلام الروحية والمادية التي تعصف في قلوب أمتنا بأسرها من المحيط إلى الخليج، فإنني لم أجد من أتوجه إليه هذه اللحظة بخواطري غير القوات المسلحة للجمهورية العربية المتحدة ومن ورائها القوات المسلحة لشعوب أمتنا العربية وكل قوى المقاومة الشريفة التي فجرتها التجربة القاسية التي أراد الله بها عزّ وجلّ أن يمتحن صبرنا وأن يختبر صلابتنا.

لقد انتظرت وفكرت كثيرا في الجريمة المروّعة التي ارتكبت في حق قدس الأقداس من ديننا وتاريخنا وحضارتنا. وفي النهاية فإنني لم أجد غير تأكيد جديد للمعاني التي كانت واضحة أمامنا جميعا منذ اليوم الأول لتجربتنا القاسية وذلك أنه لا بديل ولا أمل ولا طريق إلا القوة العربية بكل ما تستطيع حشده وبكل ما تملك توجيهه وبكل ما تستطيع الضغط به حتى يتم نصر الله حقّا وعزيزاً". ثم يلخص رسالته بالقول: "هناك نتيجة واحدة يجب أن نستخلصها لأنفسنا ويتحتّم أن نفرض احترامها، مهما كلفنا ذلك، ألا وهو أن العدو لا ينبغي له ولا يحق له ان يبقى حيث هو الآن".

أيضاً يسجّل الوزير سامي شرف في مذكراته أنّ القاهرة ودمشق وقعتا اتفاقاً عسكريّاً في أغسطس/ آب 1969، وانبثقت منه قيادة سياسية للمعركة، مشكّلة من رئيسي الدولتين وعضوية وزراء الدفاع والخارجية في البلدين، حيث تدفقت الأسلحة السوفييتية على مصر، وهو ما رأته واشنطن تزايداً للوجود السوفييتي في المنطقة، الأمر الذي سبّب الإزعاج للولايات المتحدة وتوابعها، فكان تفكيرها في طرح مبادرة روجرز. يقول سامي شرف: "تيقّن الرئيس جمال عبد الناصر من أن تحرير الأرض لن يتم عن طريق الأمم المتحدة، بل إن الطريق الوحيد لاسترداد الأرض العربية المحتلة هو القوة المسلحة، وأن ما أُخذ بالقوة لن يستردّ بغيرها".

السؤال الأهم: هل توقفت العمليات العسكرية المصرية بعد قبول مبادرة روجرز، حتى وصلنا إلى لحظة الحرب الشاملة في أكتوبر/ تشرين الأول 1973؟

تلك هي وقائع تلك المرحلة، والتي لا تختلف عما ورد في النص الكامل، غير المُجتزأ، غير المزيّف، للمحادثة بين عبد الناصر والقذافي التي فجرت كلّ هذا الجدل، غير أنّ ناشرها، مبتورًة، أبى إلا أن يبيع جمال عبد الناصر الراحل عن الدنيا قبل 55 عاماً في بورصة ترامب للسلام الإبراهيمي، والذي يأتي إلى المنطقة بعد أيّام وينتظره الذين فاتهم ركوب قطار التطبيع في محطاته الأولى ويتأهبون الآن، ولم يكن ينقصهم إلا حرق التاريخ المحترم واستخدام رماده في تسويغ الحاضر المشين.

هي حلقة جديدة في مسلسل التواطؤ على غزّة، وفلسطين كلّها.

وائل قنديل (العربي الجديد)
وائل قنديل
كاتب صحافي مصري من أسرة "العربي الجديد" عروبي الهوية يؤمن بأنّ فلسطين قضية القضايا وأنّ الربيع العربي كان ولا يزال وسيبقى أروع ما أنجزته شعوب الأمة