جرائم دولة بحقّ جزائريين تعامى عنها ديغول

جرائم دولة بحقّ جزائريين تعامى عنها ديغول

16 يونيو 2022
+ الخط -

ونحن على أعتاب الاحتفال، في الجزائر، بالذّكرى الستّين للاستقلال، بعد أكثر من 130 عاما من الاستيطان البغيض، كشفت وثائق رُفعت عنها السّرية، أخيرا، عن حقائق تحوّل مقتل جزائريين، بالمئات، في باريس، إغراقا، خنقا ورميا بالرّصاص، إلى جريمة دولة كانت أعلى السُّلطة، ممثّلة في الجنرال ديغول، على علم بها، بل غطّتها بالإجراءات التي لم تتّخذها سواء للتّحقيق أو لمعاقبة المسؤولين عن تلك الجرائم المرتكبة في عاصمة "حقوق الإنسان" والدّيمقراطية.

تبدأ القصة مع رفع السُّلطات الفرنسية السرّية عن وثائق تاريخية في غاية الأهمّية، تتعلق إحداها بإدارة الجنرال ديغول أحداث المأساة التي جرت وقائعها في باريس، في حق جزائريين، في أكتوبر/ تشرين الأول 1961، أي في أثناء الثورة التحريرية الكبرى الجزائرية ضد الاستعمار الاستيطاني الفرنسي (1954-1962)، حيث أمرت جبهة التحرير الجزائرية (الجناح السياسي لحركة التحرير آنذاك)، الجزائريين باختراق حظر التجول المفروض على الجزائريين من الشرطة الفرنسية والخروج للتظاهر، رفضا لذلك الإجراء غير القانوني مع إبداء المناصرة للحرب التحريرية.

تجمّع الجزائريون، نساء ورجالا، في الوقت المحدد، في وسط باريس، لتُفاجأ الشرطة الفرنسية بعدد هائل منهم يتظاهرون رافعين لافتاتٍ تندّد بحظر التجول ومطالبة بجزائر مستقلة. ويأتي الأمر، مباشرة، من محافظ شرطة باريس موريس بابون بوجوب قمع المتظاهرين مع استخدام كل الوسائل الممكنة، أي القتل بالرصاص، الاعتقال الوحشـي والإغراق في نهر السين، القريب من موقع التظاهرات، موقعة، في أقل من ساعات، مئات من القتلى وآلاف من المعتقلين.

الديكور، بالنتيجة، قتل للعشرات، اعتقال آلاف، لكن ما أرادت الشُّرطة، في جنح الظّلام، التّغطية عليه، هو الجرائم البشعة من الإغراق العمدي والإعدامات خارج إطار القانون لمناضلين وعمّال جزائريين من رجال الشُّرطة بأمرٍ صريح من محافظ الشرطة، وعلى أيدي ضباط المخابرات الفرنسية. تم تسجيل بعضها في محاضر جرى تبليغها إلى أعلى سلطة في فرنسا، وهي وزارة الدّاخلية، رئاسة الحكومة وقصر الإليزيه، مقرّ الرّئاسة الفرنسية بقيادة الجنرال ديغول.

اطلع الجنرال ديغول على المذكرة ما حدث وووضع ملاحظاته عليها ثم طالب بالتحقيق بالأمر، من دون أن يشير إلى وجوب معاقبة الفاعلين المتسببين، ومن دون الكشف عن حقيقة ما جرى

لم تتحدّث عن القضية إلّا وسيلة إعلام واحدة، هي الموقع الإلكتروني "ميديا بارت" لصاحبه أدوي بلينيل. كان له الفضل في إجراء تحقيق دقيق عن الوثيقة، الحدث، ثم الفاعلين المنخرطين فيه. ثم التعليق بشأن أسباب هذا الحصار الإعلامي على أي أحداثٍ خاصة بجرائم الاستعمار الاستيطاني، بل وصل الأمر إلى حديث عن مسار ما تعرف بمصالحة الذاكرة بين الجزائر وفرنسا، في ظلّ هذا التعتيم الإعلامي وتعنّت فرنسا، بالرّغم من كل هذه الإثباتات التّاريخية، عن الاعتراف بجرائمها، الاعتذار عنها ثم التّعويض للضحايا، على الأقل الذين ما زالوا أحياء أو ذويهم.

الوثيقة الأساس في الكشف عن جريمة الدولة الفرنسية في الحدث بعينه (تظاهرات أكتوبر/ تشرين الأوّل 1961)، مذكّرة كان مستشار ديغول للشؤون الجزائرية قد رفعها، بعد أيام من الأحداث، إلى الرئيس ديغول، مذكّرا إياه بما جرى فيها، معدّدا الفاعلين المنخرطين في الأحداث، وفي مقدمتهم محافظ الشُّرطة بابون، ثم موصيا، في نهاية المذكّرة، بوجوب اتّخاذ إجراءات رادعة ضدّ المتسببين في عمليّات القتل الوحشي لما قال إنّه طاول بعضا من الجزائريين (قال إنّهم لا يتجاوزون ثلاثة أو أربعة).

تكشف التغطية الإعلامية للصّحيفة الإلكترونية، "ميديا بارت"، أنّ الجنرال، بعد اطّلاعه على المذكّرة، وضع بعضا من ملاحظاته عليها، مطالبا بالتّحقيق في الأحداث. ولكن، كما تعلّق الصّحيفة، من دون أن يشير إلى وجوب معاقبة الفاعلين المتسببين، ومن دون الكشف عن حقيقة ما جرى، ولا العدد الحقيقي لمن وقع من الضّحايا من الجزائريين، والظّروف التي قضوا فيها، على الرّغم من استحالة أن لا تكون الأخبار الحقيقية لما وقع من أحداث قد وصلت إليه من مصادر أخرى غير الاليزيه (المخابرات، وزارة الدّفاع)، وهو الرئيس صاحب القبّعة العسكرية التي لا تريد أن تخفى عليها أي معلومات، وخصوصا إذا كانت من النّوع الذي يؤثّر على موازين القوى في معركة كان يخوضها، بشراسة، مع جيش التحرير الوطني، في الجزائر.

كان المؤرّخون الفرنسيون على علم بوجود وثائق رسمية حاولت التغطية على الجريمة، ولم يقوموا بدورهم العلمي، ما عدا جان لوك أينودي

ذكرت الصّحيفة، بعدها، في تعليق على الوثيقة وموقف الجنرال من مضمونها، أن السبب الحقيقي وراء التغطية على تلك الجريمة يعود إلى أن المنخرط فيها، بشكل أساسي، هو محافظ الشرطة، بابون، الذي كان يعرف الجنرال، حقّ المعرفة، أنه متورّط في جرائم حرب، منذ الحرب العالمية الثانية، عندما كان محافظا لمدينة بوردو الفرنسية، والتي تبين، في ما بعد، أنه عمل مع النازية والمخابرات الألمانية على ترحيل يهود إلى بولونيا، موطن "أوشفيتس"، وهو محتشد نازي قضى فيه آلاف من اليهود، وفق شهادات تاريخية (وهي جرائم لاحقته إلى نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، وقبض عليه، وجرت محاكمته في مدينة ليون الفرنسية).

الحقيقة الأخرى التي كشف عنها تحقيق "ميديا بارت" أن المؤرّخين الفرنسيين كانوا على علم بوجود وثائق رسمية حاولت التغطية على الجريمة، وأن هؤلاء الأكاديميين لم يقوموا بدورهم العلمي، ما عدا المؤرخ الفرنسي جان لوك أينودي، الذي كان قد نشر كتابا عن الأحداث، ونقل وقائعها بالتفصيل مع إقراره بوقوع ما بين 300 إلى 400 ضحية بين غريق وقتيل ومفقود في أقسام الشرطة الفرنسية، على مر أيام قال إنها بدأت يوم 17 أكتوبر/ تشرين الأول، واستمرّت حوالي عشرة أيام بعدها في ملاحقاتٍ لأعضاء من جبهة التحرير.

الغريب في المسألة أن المؤرّخ ستورا، المعين في الجانب الفرنسي من مسار "مصالحة الذّاكرة"، لم يعلق على الوثيقة، ولا على التحقيق الذي نشرته "ميديا بارت"، على الرغم من أنه، في إطار المهام الموكلة إليه في إطار منصبه ومسؤوليته مؤرّخا، كان عليه، على الأقلّ، أن يدلي بتصريحٍ يصف فيه ما جرى بأنه جريمة دولة ترقى إلى جريمة حرب، كما كان قد وصفها الرئيس السابق هولاند، من دون أن يصدر أوامره، ولا الرئيس ماكرون، حاليا، بعد الكشف عن الوثيقة، بإعلان مسؤولية الدولة الفرنسية عن الجريمة، كما كان قد فعل ماكرون في حادثتي اغتيال كل من موريس أودان (أستاذ الرياضيات اليساري الذي كانت القوات الفرنسية قد اعتقلته في الجزائر، ومات تحت التعذيب)، أو المحامي علي منجلي (محامي المجاهدين الجزائريين في أثناء الثّورة التحريرية، عذّبته القوت الفرنسية ثم رمته من نافذة المحكمة في العاصمة الجزائرية، أياما بعد إعدام قائد الثورة العربي بن مهيدي، بداية 1958).

تتواصل سياسة الدولة الفرنسية، الهروب إلى الأمام، بالرغم من الدلائل على ارتكاب السلطات، منذ 1839، الجرائم تلو الجرائم

تتواصل، بالنتيجة، سياسة الدولة الفرنسية، الهروب إلى الأمام، بالرغم من كل الدلائل التي تؤكد على ارتكاب السلطات، منذ بدء الاستيطان، عام 1839، الجرائم تلو الجرائم، بل تحديد مؤرّخين فرنسيين أسماء سياسيين فرنسيين وعسكريين أصدروا الأوامر، واقترفوا، باسم الدولة الفرنسية، تلك الجرائم التي راح ضحيتها ما لا يقل عن عشرة ملايين من الجزائريين بشتى أنواع القتل (المرض، الجوع، التهجير، التجنيد الإجباري، القتل، ضحايا تجارب نووية وكيميائية، إلخ ..).

تحتفل الجزائر، بعد أقل من شهر، بالذكرى الستين للاستقلال، وهو تاريخ رمزي، يمكن الضغط على فرنسا، من خلاله، وبخاصة بعد الكشف عن نموذج من نماذج جرائم الدولة الفرنسية بحق الجزائريين، لدفع باريس نحو الانطلاق في المسار الحقيقي لمصالحة الذاكرة، وليس الاستمرار في التلاعب بها، كما قام بذلك المؤرخ ستورا في تقريره عن الذاكرة، ورفعه إلى الرئيس الفرنسي، ماكرون، منذ قرابة العام.

قد يكون من الأجدى الضّغط، هنا، من خلال إصدار موسوعة عن تلك الجرائم وتحديد قائمة بمجرمي الحرب الفرنسيين، من عسكريين وسياسيين، ما قد يدفع فرنسا إلى الانخراط الفعلي في مسار مصالحة للذاكرة حقيقي، وليس كما قد جرى. وتلك فكرة قد نورد، في مستقبل الأيام، نموذجا عنها في إطار مشروع أكاديمي طموح، نرفع بها تحدّي التذكير بجرائم فرنسا التاريخية في الجزائر.