جذور صهيونية لحقوق الإنسان

جذور صهيونية لحقوق الإنسان

15 ديسمبر 2021
+ الخط -

تعمّ، في العاشر من ديسمبر/ كانون الأول من كل عام، احتفالات باليوم العالمي لحقوق الإنسان، وهو اليوم الذي اعتمدت فيه الجمعية العامة للأمم المتحدة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في العام 1948، في قصر شايو في باريس. وقبل هذا الحدث بيوم، اعتمدت الجمعية "اتفاقية منع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية"، وسبق الحدثان بسبعة أشهر قيام دولة إسرائيل. وللوهلة الأولى، قد لا تبدو هذه التطوّرات مرتبطة في ما بينها، لكن الخيط الناظم للأحداث الثلاثة يتمثل في الصهيونية: القوة الدافعة والمرجع الأساس لشخصيات ذات خلفية قانونية ودبلوماسية وقفت وراء تأسيس منظومة حقوق الإنسان وتعزيز ترسانة القانون الدولي من جهة، وقيام دولة إسرائيل من جهة أخرى، في انتهاكٍ صريحٍ للحقوق والقوانين ذاتها.

من أشهر الحقوقيين الصهاينة

كان الدبلوماسي الفرنسي، رينيه كاسان، الذي حصل سنة 1968 على جائزة نوبل للسلام لدوره في صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فضلا عن جائزة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، محاميا وناشطا صهيونيا، شغل منصب رئيس التحالف الإسرائيلي العالمي (L'Alliance Israélite Universelle) مدة طويلة من 1944 إلى حين وفاته عام 1975، وهي منظمةٌ يهودية فرنسية استيطانية تأسَّست عام 1860 في باريس. وبينما كان كاسان يقود جهود صياغة الإعلان الحقوقي في المنظمة الدولية، كان يطالب لجنة الأمم المتحدة الخاصة في فلسطين بالسماح لليهود بالهجرة الواسعة وتنمية "الوطن القومي لليهود" في فلسطين، وشراء الأراضي لاستيعاب المهاجرين اليهود في مستعمرات زراعية. لعب كاسان دورا مهما في إقناع الحكومة الفرنسية بالتصويت لصالح قرار تقسيم فلسطين في الجمعية العامة للأمم المتحدة 181 بدل الامتناع (1)، وهو من أصرّ على تسمية إعلان حقوق الإنسان بـ "العالمي" بدل "الدولي"؛ توصيف يُحيل إلى عالمية التحالف اليهودي الذي قاد جهوده، من موقعه ممثلا للدبلوماسية الفرنسية في الأمم المتحدة.

لا أمل في مساواة أمام الحقوق والقانون في غياب مساواةٍ أمام إنسانية الإنسان

أما المحامي البولندي اليهودي، رافائيل ليمكين، فقد اشتهر بصياغة مصطلح "الإبادة الجماعية" الذي تم إدراجه في قائمة الاتهامات الموجهة إلى كبار المسؤولين النازيين في محاكمات نورمبرغ، في أواخر 1945. ونجح ليمكين في حشد الدعم الدولي لتحويل المصطلح الوصفي إلى جريمة دولية، بل أخطر الجرائم في القانون الدولي، واعتماد جمعية الأمم المتحدة اتفاقية تسعى إلى منع هذه الجريمة في 9 ديسمبر/ كانون الأول 1948. حرص المحامي ليمكين على إخفاء ماضيه الصهيوني، بما في ذلك عضويته في الحركة الصهيونية البولندية، وجهوده الداعمة للمشروع الصهيوني (2). ومن الأرجح أن محاولة ليمكين الابتعاد لاحقا عن المنظمات الصهيونية تعود إلى تفاديه التعارض الأخلاقي بين تجريم "الإبادة الجماعية" ومناصرته الصهيونية التي تقوم، في جوهرها، على عقيدة إبادية يلخصها شعار" أرض بلا شعب وشعب بلا أرض"، الذي أباد فلسطين رمزيا قبل الشروع في تدميرها على الأرض، عبر اجتثاث شعبها الأصلاني وتدمير تاريخه وذاكرته وهويته، والاستيلاء على أرضه كي يتسنّى لإسرائيل إحلال مجتمع جديد يقوم على سردية تاريخية أسطورية.

الآباء المؤسسون لمنظومة حقوق الإنسان

وبينما تقف الصهيونية والقيم الإنسانية على طرفي نقيض، قد يفاجأ بعضهم باكتشاف أن الآباء المؤسسين لمنظومة حقوق الإنسان الدولية كانوا ناشطين صهاينة، ساهموا في تأسيس إسرائيل. ويروى قصة الجذور الصهيونية لحقوق الإنسان أستاذ التاريخ اليهودي في جامعة فرجينيا الأميركية، جيمس لوفلر، في كتاب بعنوان "العالميون المتجذّرون: اليهود وحقوق الإنسان في القرن العشرين"، صدر في منتصف 2018، وتم الاحتفاء به في الأوساط الأكاديمية والإعلامية الأميركية. ويمجّد فيه لوفلر خمس شخصيات يهودية: المحامين هيرش لوترباخت وجاكوب روبنسون وبيتر بينينسون، والدبلوماسي جاكوب بلوستين، والحاخام موريس بيرلزويغ. يتناول الكاتب الموضوع في صيغة رومانسية تجتهد لترويج فكرة جوهرها أن الإنسانية مَدينةٌ لثلةٍ من الصهاينة عملوا جاهدين لتحويل اضطهاد اليهود الأزلي إلى مشروعٍ يخدم الإنسانية جمعاء. اللافت في هذه الأطروحة أن الوقائع التي يسردها وينسبها لكل واحدٍ من الخمسة تثبت العكس تماما، وتظهر كيف لعبوا بمهارةٍ على حبلي الصهيونية وحقوق الإنسان، وكيف حرصوا على قيام إسرائيل، في إطار منظومة حقوق وقوانين تمت بلورتها على مقاس اليهود، ثم أضفوا عليها صبغة العالمية، ويُقصد بها العالمية ذاتها التي كانت توصَف بها كبرى المنظمات اليهودية، وفي مقدمتها "المنظمة الصهيونية العالمية" و"المؤتمر اليهودي العالمي" أو "التحالف اليهودي العالمي"، التي كانت وما زالت تروّج دولة لجميع اليهود عبر العالم.

تقف الصهيونية والقيم الإنسانية على طرفي نقيض

يفرد لوفلر حيزا كبيرا للمحامي البولندي لوترباخت الذي سخّر خبرته الدولية لدعم الحركة الصهيونية وإسرائيل. اشتهر بدوره الرئيس في إدراج "الجرائم ضد الإنسانية" في قائمة الاتهامات في محاكمات نورمبرغ، وحرص على سرّية المشورة القانونية التي قدّمها للوكالة اليهودية (Jewish Agency)، عن صلاحيات الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل قرار التقسيم في نوفمبر/ تشرين الثاني 1947 وبعده (3). تبرز ازدواجية مواقفه وتناقضها في مشاركته في صياغة وثيقة إعلان استقلال إسرائيل، إلى جانب صياغته الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان بعد الحرب العالمية الثانية. وفي 1945 نُشر له كتاب بعنوان "الإعلان الدولي لحقوق الإنسان" الذي يدعو إلى معاهدة تحمي حقوق الإنسان الأساسية، ويعتبر مؤسّسا لمشروع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، بينما كان يُسدي النصح لإسرائيل كيف تهضم حقوق الفلسطينيين الأساسية.

المحامي الثاني هو الدبلوماسي الليتواني، جاكوب روبنسون، الذي سيلعب بدوره على واجهتي الصهيونية وحقوق الإنسان. غادر روبنسون ليتوانيا في 1940، متجها نحو أميركا، حيث أسّس معهد الشؤون اليهودية، الجناح البحثي للمؤتمر اليهودي العالمي (World Jewish Congress). وركّز في بحوثه على الهولوكوست والتعويضات المترتبة عليه، والأساس القانوني لمحاكمة المجرمين النازيين، وتعزيز مفهوم حقوق الإنسان وسيلة للدفاع عن حقوق "الشعب اليهودي" العالمية والعابرة للحدود. طوال عامي 1947 و1948، تنقّل روبنسون بأريحية بين دور المستشار الخبير للفريق المعني بتأسيس لجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة ومهمة المستشار القانوني للوكالة اليهودية في المنظمة الدولية ذاتها، قبل أن يتبوأ منصب المستشار القانوني لوفد إسرائيل في الأمم المتحدة الذي شغله نحو عشر سنوات.

المؤسّس الثالث الذي يشيد لوفلر بإنسانية صهيونيته هو المحامي البريطاني بيتر بينينسون، وهو أحد أعلام حقوق الإنسان و"اليسار الصهيوني. في بريطانيا. قضى طفولته بين القدس ولندن، في وسط ثري ومؤثر في الوسط الصهيوني، إذ عُرفت والدته بتأسيسها "المنظمة النسائية الصهيونية الدولية". ناصر الصهيونية في شبابه، وأسّس في العام 1938 منظمة لرعاية اللاجئين اليهود الألمان في إنكلترا، وأسّس منظمة العفو الدولية (أمنستي أنترناشيونال) في 1961 لمناصرة "سجناء الرأي" في العالم. وكانت تربطه بسلطات إسرائيل علاقاتٌ جيدة، سمحت له بإنشاء فرع لـ "أمنستي" على أراضيها. انتقاد "أمنستي" إسرائيل لاحقا لا يعود إلى بينينسون الذي لزم الصمت تجاه جرائم دولة إسرائيل منذ تأسيسها حتى احتلالها الأراضي الفلسطينية عام 1967، بل فرضته الضغوط الدولية على المنظمة، بعد أن تبين تحيّزها لإسرائيل وتسامحها مع تعذيبها السجناء الفلسطينيين في سجونها العسكرية. لتجاوز الأزمة التي كادت تعصف بـ "أمنستي"، اضطرت المنظمة أن تتبنّى موقفا حقوقيا تجاه الدولة الصهيونية، لإثبات تحرّرها من الانتماءات السياسية أو الدينية والتزامها بحقوق الإنسان. أما بينينسون فلم يتغير ولاؤه لإسرائيل، وظل يدافع عن السردية الصهيونية، بما في ذلك "شعب اليهود" المتخيّل وتاريخ متخيل يمتد إلى آلاف السنين.

الآباء المؤسسون لمنظومة حقوق الإنسان الدولية كانوا ناشطين صهاينة، ساهموا في تأسيس إسرائيل

وبما أن التمتّع بالحقوق يحتاج إلى السلطة، فإن المؤسس الرابع، الأميركي جاكوب بلوستين، سيؤمّنها بثروته النفطية وقربه من صناع القرار في واشنطن، مستخدما حقوق الإنسان مدخلا لنشاطه الدبلوماسي. اشتهر بلوستين بمرافعته الحقوقية في مؤتمر سان فرانسيسكو، عام 1945، التي أقنعت المسؤولين الأميركيين بإدراج حقوق الإنسان في ميثاق الأمم المتحدة. وكان أيضا وراء فكرة إحداث منصبٍ لمفوض سام لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة، بعد أن عيّنه الرئيس الأميركي، دوايت أيزنهاور، عضوا في وفد بلاده لدى الأمم المتحدة. كباقي مؤسّسي منظومة حقوق الإنسان، كان ينشط في تعزيز حقوق اليهود قبل كل شيء، عبر رئاسته اللجنة اليهودية الأميركية (American Jewish Committee)، إحدى أقوى المنظمات اليهودية والأكثر تمثيلًا للأميركيين اليهود الأثرياء. وشكل دعم اللجنة مشروع تقسيم فلسطين عاملا مهما في الضغط على واشنطن، لتبنّيه والعمل على تمريره في الجمعية العامة. وعلى الرغم من أن اللجنة قد دعمت المشروع الصهيوني للوكالة اليهودية وموّلت نشاطاته، كان بلوستين يصرّ على التنكّر لصهيونية المنظمة. وقد ساعده التظاهر بالحياد السياسي على التنقل بين رؤساء الولايات المتحدة والأمناء العامين للأمم المتحدة ورؤساء الوزراء الإسرائيليين، وغيرهم من الشخصيات النافذة، لتأمين مصالح اليهود في السياسة الخارجية للولايات المتحدة وداخل المنظمة الدولية.

المؤسس الخامس، حسب لوفلر، الحاخام البريطاني موريس بيرلزويغ، صديق المشاهير الملقب بـ "بطل الصهاينة"، وأحد أهم مؤسّسي المؤتمر اليهودي العالمي (World Jewish Congress) ، إحدى أولى المنظمات غير الحكومية لحقوق الإنسان (اليهودي)، ومن أقوى جماعات الضغط في واشنطن أيضا. ناصر بيرلزويغ حقوق اليهود في كل من أوروبا الشرقية وفلسطين تحت الانتداب البريطاني، في عصبة الأمم أولا ولاحقًا في أروقة الأمم المتحدة. نشط كثيرا خلف الكواليس، عبر تمثيله المؤتمر اليهودي في لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، وكان يحثّ على المطالبة بـ "وطن قومي لليهود" حقا من حقوق الإنسان التي كان ينسبها لتعاليم التلمود وعالميتها.

ويطرح دور الحاخام داخل اللجنة الأممية لحقوق الإنسان مسألة الأسس اللاهوتية لحقوق الإنسان العلمانية ظاهريأ، خصوصا وأنه شكل شخصية محورية تنقلت بين الآباء المؤسّسين وجمعت بين مساعيهم، إذ كان بمثابة المرشد لبيتر بينينسون الذي كان أحد طلابه، ولم يؤسّس منظمة العفو الدولية إلا بعد حصوله على مباركة الحاخام. عمل بيرلزويغ بشكل وثيق مع المحامي جاكوب روبنسون، وأسّسا معاً "المؤتمر اليهودي العالمي"، وعمل أيضا مع المحامي لوترباخت في الاتحاد العالمي للطلاب اليهود، ثم تعاون مع لوترباخت وروبنسون في محاكمات نورمبرغ.

العنصرية جوهر الصهيونية

بذل لوفلر جهدا مضنيا ليقنع القارئ بأن صهيونية كل شخصية من الشخصيات الخمس قد خدمت الإنسانية، وأن ما كان يحرّكهم هو عالمية الحقوق، وتوقف توثيقه النشاط الصهيوني في مجال حقوق الإنسان في مطلع السبعينيات، في اللحظة التي أصدر فيها المجتمع الدولي حكمه على الصهيونية، واعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار 3379 لعام 1975، الذي يقرّ بأن الصهيونية "شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري"، ويطالب جميع الدول بمقاومة الأيديولوجية الصهيونية، باعتبارها خطرا على الأمن والسلم الدوليين. شكل هذا القرار زلزالا لإسرائيل، إلى درجة أنها جعلت إلغاءه شرطًا لمشاركتها في مؤتمر مدريد 1991، لإحياء عملية السلام بلا سلام.

نُشر الكتاب قبل أن يُصدر الحقوقيون الإسرائيليون حكمهم على دولتهم التي وصفتها منظمة بتسيلم بـ "نظام فصل عنصري - أبارتهايد"، وهو وصف متأخر، لكنه أحدث فرقا بتحريره المنتقدين لسياسات إسرائيل العنصرية من تهمة معاداة السامية. اتضح للجميع أن إسرائيل، كما يصفها عزمي بشارة "استعمار استيطاني أنشأ نظام أبارتهايد"، وعمل على "إدراجه ضمن البنية القانونية للدولة"(4).

صحيحٌ أن الخبراء القانونيين والحقوقيين الصهاينة لعبوا دورا ملحوظا في تطوير منظومة حقوق الإنسان وترسانة القانون الدولي، لكن ما فائدة حقوق عالمية يتم تطبيقها بانتقائية؟ وقانون دولي تنتهكه الدول القوية، وتخضع له الدول المستضعفة والمنهزمة؟ الجواب عند لوترباخت ذاته، ويظهر جليا في ازدواجية موقفه تجاه إمارة حيدرآباد وإسرائيل. في يوليو/ تموز 1948، كان يشغل منصب عميد كلية القانون الدولي في جامعة كامبريدج البريطانية، ووصل إليه طلب استشارة، تقول فيه إمارة حيدر آباد أنها نعمت بالاستقلال قرونا قبل أن تحتلها بريطانيا، ثم انسحبت وتركتها محاصرة بجيوش الهند، بينما ترفض الانضمام للهند أو باكستان، وتطلب استشارته بشأن اللجوء لمحكمة العدل الدولية أو مجلس الأمن الدولي لاستصدار قرارٍ يعترف باستقلالها. يجيب لوترباخت محامي الإمارة بأن حظوظ حصول حيدرآباد على الاستقلال جد ضئيلة، وينصح مسؤوليها بالتوجه إلى المحكمة لاستصدار أمر قضائي يحذّر الهند من غزو أراضيها، ويدعم موقفها تجاه الرأي العام الدولي. أما إسرائيل التي راسلته بشأن محاولة سورية اللجوء إلى المحكمة الجنائية للطعن في الأساس القانوني لإعلان إسرائيل استقلالها، فقد نصحها بعكس ما نصح به حيدرآباد، أي بالابتعاد عن محكمة العدل الدولية قدر الإمكان، وأوضح أن هدف سورية هو الطعن في الصلاحيات القانونية للجمعية العامة من أجل إبطال قرار التقسيم. ويضيف المحامي الذي سيعمل لاحقا قاضيا في محكمة العدل الدولية أن من شأن لجوء إسرائيل إلى المحكمة أن يضرّ بسلطة الأخيرة وسمعة الأمم المتحدة ومصلحة دولة إسرائيل، وختم بأن "الصراع العربي - الإسرائيلي يقع بشكل واضح للغاية على الحد الفاصل بين السياسة والقانون" (5).

صحيحٌ أن الخبراء القانونيين والحقوقيين الصهاينة لعبوا دورا ملحوظا في تطوير منظومة حقوق الإنسان وترسانة القانون الدولي، لكن ما فائدة حقوق عالمية يتم تطبيقها بانتقائية؟

ومنذ ذلك الحين، التزمت إسرائيل حرفيا بنصيحة لوترباخت، ولم تتوجّه قط إلى أية محكمة دولية، ولم تعترف بالقانون الدولي إلا بما يخدم مصالحها، وانقلبت على الأمم المتحدة التي جاءت بها إلى الوجود. منذ ذلك الحين، وهي تقتصّ وتنتقم ممن تشاء، وتقصف دول الجوار متى تشاء، حتى أصبحت هذه الدول فاقدة للسيادة على أراضيها. أما حيدر آباد، فقد طرحت قضيتها من أجل الاستقلال أمام الأمم المتحدة وناشدت مساعدتها بدون جدوى، فاضطرّت إلى الاستسلام للقوات الهندية.

يوضّح موقف لوترباخت لماذا تنهار منظومة حقوق الإنسان والقانون الدولي من تلقاء ذاتها، نظرا إلى هشاشة أسسها ومؤسساتها، ولأن المشكلة ليست في الحقوق والقوانين الموجودة بوفرة، وإنما في الإنسان. لا أمل في مساواة أمام الحقوق والقانون في غياب مساواةٍ أمام إنسانية الإنسان. هذا ما يفسر وضع اتفاقية منع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية التي اعتمدها المجتمع الدولي في 1948، ولم يتم تفعيلها منذ ذلك الحين لمنع إباداتٍ جماعيةٍ راح ضحيتها مئات آلافٍ من الأبرياء في رواندا وسربرينيتشا وميانمار ودارفور، وظلت الاتفاقية كما وصفها يورغ شوارزنبرغر ساخرا: اتفاقية "غير ضرورية حين يمكن تطبيقها وغير قابلة للتطبيق حين تستدعيها الضرورة".

الأكثر سخرية في موضوع الجذور الصهيونية لحقوق الإنسان والقانون الدولي أن تعريف ليمكين جريمة الإبادة الجماعية ينطبق على جرائم الحكومة الإسرائيلية، ومن سبقها من وكالات وعصابات إرهابية صهيونية، بغرض التدمير الكلي أو الجزئي للمجموعة الدينية القومية والعرقية المختلفة التي تشكل الشعب الفلسطيني، حسب أستاذ القانون الدولي في جامعة إلينوي الأميركية فرانسيس بويل، وخبراء قانونيين آخرين.

المراجع:

[1] Catherine Nicault, « L'Alliance au lendemain de la Seconde Guerre mondiale : ruptures et continuités idéologiques », Archives Juives, (2001) 1 . vol. 34. pp. 46-47. DOI : 10.3917/aj.341.0023. URL : https://www.cairn.info/revue-archives-juives1-2001-1-page-23.htm

[2] James Loeffler, “Becoming Cleopatra: the forgotten Zionism of Raphael Lemkin”, Journal of Genocide Research (2017). DOI: 10.1080/14623528.2017.1349645

[3] Reut Yael Paz, “Making it Whole: Hersch Lauterpacht’s Rabbinical Approach to International Law,” Goettingen Journal of International Law 4 (2012) 2, p. 422, doi: 10.3249/1868-1581-4-2-paz

[4]  عزمي بشارة، "استعمار استيطاني أم نظام أبارتهايد: هل علينا أن نختار؟"، مجلة "عمران"، العدد 38 (خريف 2021). ص. 18. https://www.dohainstitute.org/ar/ResearchAndStudies/Pages/Settler-Colonialism-or-Apartheid-Do-We-Have-to-Choose.aspx

[5] James Loeffler, “Zionism, International Law, and the Paradoxes of Hersch Zvi Lauterpacht,” In The Law of The Law of Strangers: Jewish Lawyers and International Law in the Twentieth Century, James Loeffler & Moria Paz (eds.) Cambridge University Press (2019): https://ssrn.com/abstract=3313561

 

D3DB8A51-4A38-4CFE-8FF7-F3890E6C424F
D3DB8A51-4A38-4CFE-8FF7-F3890E6C424F
عائشة البصري
كاتبة وإعلامية مغربية، ناطقة سابقة باسم بعثة الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة في دارفور وحائزة على جائزة رايدنهاور الأمريكية لكاشفي الحقيقة لسنة 2015.
عائشة البصري