جدلية معادلة الحرية والسيادة والسلطة

جدلية معادلة الحرية والسيادة والسلطة

23 مارس 2022
+ الخط -

شهد القرن الواحد والعشرون تغييراتٍ جذريةً على مستوى السلطة وأنظمة الحكم، سواء لجهة التخلص من الوصاية والخروج من تحت الإمبراطورية كما حصل مع الجمهوريات السوفييتية السابقة التي بدأت باستعادة استقلالها مع انهيار الاتحاد السوفييتي في نهاية القرن العشرين، أو لجهة التخلص من أنظمة القمع والاستبداد كما حصل في العالم العربي مع انطلاق شرارة الانتفاضة في لبنان عام 2005 ضد الاحتلال السوري، تلتها موجة ثورات الربيع العربي في تونس ومصر وليبيا واليمن والجزائر، وأخيرا سورية، عام 2011. وبغض النظر عما آلت إليه هذه الثورات التي نجح بعضها وأجهض بعضها الآخر، فإن ما حدث يُثبت مدى الترابط بين جدلية الحرية والاستقلال والسيادة والسلطة، تماما كما حصل في أوكرانيا التي كانت السباقة في هذا المضمار عام 2004، إذ لم تكن استعادتها استقلالها شرطا كافيا لحريتها، فقد انتفضت ضد السلطة التي كانت لا تزال تابعة ومرتبطة بالإمبراطورية التي أصبح اسمها لاحقا روسيا الاتحادية بقيادة غازي أوكرانيا اليوم، فلاديمير بوتين، والذي هو نتاج نظام الحكم السابق ونتاج أجهزته الاستخباراتية والقمعية. وقد عرفت انتفاضة أوكرانيا يومها بـ"الثورة البرتقالية"، أي تلك الثورة الشعبية التي قامت من أجل الحرية التي نصب شبابها الخيم وافترشوا ساحات كييف، وتمكّنوا من قلب معادلة "الاستقلال من أجل السلطة" إلى معادلة "الاستقلال من أجل الحرية"، ونجحوا في إسقاط فيكتور يانكوفيتش رجل موسكو في الرئاسة! وكانت قد عبّدت الطريق لها قبل أشهر انتفاضة مشابهة في جورجيا. وربما كانت هي الشرارة أو الملهمة لانتفاضة الاستقلال الثاني في 14 مارس/ آذار 2005 في لبنان التي تلتها لاحقا الانتفاضات الشعبية العربية.

وقد عزّز ترابط جدلية الحرية والسلطة ما آلت إليه أشكال الحكم والتطورات السياسية في الدول التي كانت ضمن المظلة السوفييتية، ثم استعادت استقلالها، إلا أن بعضها ما زال يدور في فلك روسيا بوتين، أي أنها أصبحت دولة ذات كيان مستقل، ولكنها منقوصة السيادة، كما هو حال، على سبيل المثال، كازاخستان المجاورة التي استنجد رئيسها، نور سلطان، بقواتٍ روسيةٍ في بداية يناير/ كانون الثاني من هذا العام لقمع الانتفاضة الشعبية ضد ارتفاع أسعار المحروقات، أو بيلاروسيا التي تشكّل السلطة فيها احتياطا لحكم بوتين، وجاهزة للتدخل والمساندة في غزو أوكرانيا. كما أن هذه الاستقلالات الشكلية تؤكّد أنها ليست شرطا كافيا لانتزاع الحرية ولحقّ شعبٍ في تقرير مصيره، في حين أنها تؤكّد، في المقابل، أن هناك تلازما بين الاستقلال والسلطة اللذيْن يتعارضان، في أغلب الحالات، مع الحريات التي هي الهدف الأهم والأرقى للثورات والانتفاضات وأنظمة الحكم.

تغيير الأنظمة لا يعني بالضرورة تحقيقا لأيٍّ من أشكال الحرية والديمقراطية، وإنما مجرد تبديل نظام بآخر

وقد شهدنا عربيا ثورات أو انتفاضات شعبية غير مسبوقة، من أجل الحرية والكرامة ضد أنظمة استبداد حكمت عقودا شعوبها بالحديد والنار، وباسم التحرير والتحرّر من التبعية للاستعمار وغيرها من الشعارات البرّاقة، إنما ليس أبدا من أجل الحرية والحريات التي تبدو غريبة وبعيدة سنين ضوئية عن العقل السلطوي العربي وأنظمة الحكم، ما يجعل من مسألة التحرير (انظر فلسطين!) مجرّد مطيةٍ لتسلق السلطة وعنوانا تعبويا لخداع الشعوب المستمر، وإن بأشكال وسلطات مختلفة. وقد تمكّنت هذه الثورات من إسقاط أنظمة أو تغيير رموزها في أكثر من بلد، مثلما حصل في تونس ومصر وليبيا، أو انتهت إلى فوضى عارمة وحروب واقتتال في بلدان أخرى، فيما لم تنجح في بعضها الأخرى إلى إزاحة أعتاها وأكثرها دمويةً كما جرى ويجري في سورية. غير أن أي تغيير لهذه الأنظمة لم يعن قط تحقيقا لأيٍّ من أشكال الحرية والديمقراطية كما هو الواقع في مصر، وإنما مجرد تبديل نظام بآخر. أي أنها عملية تغيير للسلطة يمكن أن يقف وراءها من كان يحرّك الأولى، أو من لم تعد له مصلحة في بقائها، أو حتى من لم يعد قادرا على مواجهة حالة الاعتراض، فيعمد إلى ركوب موجة الشارع أو مواكبتها، كي يبقى فاعلا ومؤثرا في صنع البديل.

وهكذا، ليس إسقاط السلطة أو تغييرها شرطا كافيا للحرية والكرامة، ولا يشكّل، بالتالي، بحد ذاته، هدفا نبيلا أو ساميا، بل يدخل في ضمن لعبة السلطة نفسها، كما يتجلّى غالبا في أحوال أنظمة الحكم العربية وتبدّلاتها، فكم شهدنا انقلاباتٍ على مدى عقود الخمسينيات والستينيات والسبعينيات قامت كلها باسم الحرية والتحرّر وفلسطين وضد الرجعية، وإذ بها أكثر قمعا وأكثر استبدادا وأكثر تبعية .. وهذه ليست معضلة عربية فقط، وإنما أفريقية وآسيوية وعالمثالثية، ولنا في النموذج الخميني الإيراني الأقرب لنا أوضح دليل، فقد قاد الخميني ثورة ضد الشاه الإمبراطور لتخليص الشعب الإيراني من سطوته وتفرّده بالسلطة، واذ به أقسى نموذج للتسلط والقمع والبطش والتمييز. وأسطع دليل على أن ثورته كانت من أجل الاستيلاء على السلطة وإقامة نموذج لنظام ثيوقراطي توسّعي لا علاقة له بالحريات بل في قمعها، ولا بمشاركة الشعب في السلطة وفي صنع القرار.

ليس إسقاط السلطة أو تغييرها شرطاً كافياً للحرية والكرامة، ولا يشكّل، بالتالي، بحد ذاته، هدفاً نبيلاً أو سامياً

وهذه أيضا تجربة لبنان الذي كان السباق إلى الانتفاض في وجه جيش النظام السوري الذي جثم على صدور اللبنانيين ثلاثين سنة، وحقّقت انتفاضته نجاحا غير مسبوق في وضوحها وشموليتها، وتمكّنت من قلب المعادلة وإجبار النظام السوري على الانسحاب، واستعادت استقلال لبنان وسيادته وحرّرت السلطة بشكل كبير من التبعية والارتهان لنظام الأسد، وما هي إلا سنوات لم تتجاوز العقد ليأتي دور الانتفاض مجدّدا هذه المرّة على فساد السلطة ونهبها ثروات البلد وانسداد أي أفقٍ لعملية التغيير والاستقلال الحقيقي. فما لم تكتشفه الانتفاضة الأولى أظهرته الثانية التي بدأت إرهاصاتها عام 2015، لتندلع وتعم لبنان عام 2019، ثم تصطدم بحاجز منيع، هو سلطة فريق مسلح بات يطبق على مفاصل الدولة وأنفاسها. هذا الفريق الذي هو حزب الله الذي أعلن أمينه العام، منذ انتفاضة عام 2005، أن "لبنان ليس أوكرانيا"، واستمر قابضا على سلاحه بعد أن تحرّر جنوب لبنان عام 2000، واقتحم الساحة الداخلية، ودخل لعبة السلطة أول مرّة بوقوفه في وجه الانتفاضة، دفاعا عن سلاحه وخوفا من السلطة البديلة بعد انهيار السند والغطاء السوريين له، فأطلق يومها حسن نصرالله كلامه الشهير "شكرا لسوريا الأسد".

لم يتوان، إذا، حزب الله في الدفاع عن السلطة يومها، وليس عن حرية الشعب اللبناني، وأوقف تجربة الحرية في منتصف الطريق، غير أنه كان أكثر وضوحا وحاسما في انحيازه للسلطة في وجه الانتفاضة الثانية التي أطلق عليها شبابها ثورة أكتوبر (2019) عندما لم يجد حرجا في الوقوف منذ اليوم الثالث مدافعا ليس عن السلطة فحسب، بل عن النظام القائم بالذات، نظام الفساد والمحسوبيات والزبائنية وتقاسم الحصص الطائفية الذي تديره السلطة التي أتى حزب الله برئيسها، ويقيم حلفا دائما مع رئيس برلمانها، ويسيطر بوهج السلاح على معادلة حكومتها. لم يعنه قط أن قطاعات واسعة من جيل الشباب ومتوسطي العمر انتفض ضد السلطة، كل السلطة، من أجل حريته ولقمة عيشه، ومنهم شرائح واسعة في مناطق نفوذه الجنوبية والشيعية. أعتقد أنه ما زال قادرا على إقناع الجمهور بـ"شعار المقاومة"، ولم يرد أن يسلم بأنه تحوّل إلى شرطي النظام واحتياطي له، قامع للحريات ولتطلعات الشباب وطموحاتهم، إلى أن أصبحت كثير من المجموعات التي تكونت في ثورة 17 أكتوبر ترفع شعار التخلص من سلاح حزب الله بوصفه أداة للاحتلال الإيراني في لبنان. وهكذا، مرّة أخرى، تنجح "الثورة" من أجل السلطة وتفشل الانتفاضة من أجل الحرية والاستقلال الحقيقي.

5231ACF6-F862-4372-9158-B1655EE52A60
سعد كيوان

صحافي وكاتب لبناني، عمل في عدة صحف لبنانية وعربية وأجنبية.