جحيم ترامب يُسعف غزّة

17 يناير 2025
+ الخط -

كأنه الجحيمُ الذي هدّد به دونالد ترامب "الجميع" هو ما أعطى المفاوضات غير المباشرة بين إسرائيل و"حماس"، في الدوحة والقاهرة، الاندفاعة التي أوصلتها إلى الاتفاق المُعلن أول من أمس الأربعاء، والذي "يُمرحِل" وقف إطلاق النار في قطاع غزّة في ثلاث محطّاتٍ، وليستا محسومتيْن تماماً الكيفيّتان اللتان يُنتقل بهما إلى الثانية والأخيرة، غير أن التصوّر العام أن ينهي هذا المسار حرب الإبادة الشرسة التي عرّض لها جيش الاحتلال الشعب الفلسطيني في غزّة ومشافيه ومدارسه وبيوته وحقوله. ويُلحَظ، بيُسرٍ، أن نتنياهو لن يوفّر سبباً يفتعله ليتذرّع به كي يتملّص من تنفيذ هذا الإجراء أو ذاك، سيّما وأن تفاصيل الاتفاق على كثيرٍ من التعقيد اللوجستي والتنفيذي، وسيّما أن الشيطان، في موضوعتِنا هذه، لا يقيم في هذه التفاصيل، وإنما أن الشيطان نفسَه، ممثلاً بشخص نتنياهو، هو المنوطُ به تنفيذ ما يُلزِم به الاتفاق دولة الاحتلال. وظاهرٌ لكل ذي عينين تُبصران أن المذكور كأنه تجرّع سُمّاً وهو يوعِز لموفديه المفاوضين في الدوحة بتمرير كثيرٍ من الذي انطرح أمامهم في سفرياتٍ غير قليلةٍ تتابعت إلى الدوحة والقاهرة، في جولات تفاوضٍ كان نتنياهو يوفد هؤلاء إليها للتّ والعجْن، ولإيهام من يريدون أن يتوهّموا أنه حريصٌ على تحرّر المحتجزين الإسرائيليين من الأسر في غزّة، فيما تلبيةُ شهوة الحرب والإمعانِ في القتل والتدمير في القطاع المنكوب تتقدّم لديه على أيِّ اعتبار، وهو الذي يُصارع في حشاياه توتّراً حادّاً، فقد أخفق، على الرغم من كل النيران التي قذَف بها الغزّيين 15 شهرا، في تحرير الأسرى، الذين قتَل منهم من قتَل، وأمكن لجيشه ذات جريمة كبرى، في يونيو/ حزيران الماضي، في مخيّم النصيرات من تحرير أربعةٍ منهم. وهذا هو سحابة نهار أمس الخميس يتذاكى على الوسطاء، وعلى حلفائه في حكومة اليمين الفاشي التي يترأسّها، ويشيع كلاماً عن عدم التزام "حماس" بكامل بنود الاتفاق المتوصّل إليه.

الوقتُ لشيءٍ من الابتهاج، إذ سيذهب أهل غزّة إلى أنفاسٍ يلتقطونها، إلى أيامٍ بلا صواريخ ولا قتل. ليس الوقتُ للكلام الكثير في السياسة، وإنْ مغرٍ أن يُستَرسَل في "السحر" الذي يتغلّف به شخصُ ترامب، إذ يوفد مندوباً، غليظ الطباع على ما يُنعت، اسمُه ستيف ويتكوف، إلى قطر وإسرائيل، فتتفكفَك عقدٌ ليست قليلةً في مفاوضاتٍ كانت مُضجرة، نحو عام، ويسمع نتنياهو من هذا الموفَد، في يوم عطلة السبت، ما كان يجب أن يسمعَه من سيئ الذكر، أنتوني بلينكن، ورئيسه جو بايدن الذي يغادر البيت الأبيض الاثنين المقبل، ساعاتٍ قبل بدء سريان المرحلة الأولى من الاتفاق العتيد، بالتواقُت مع دخول ترامب البيت الأبيض نفسه. ولا يحتاج واحدُنا إلى دماغ نيوتن ليقع، في هذا التفصيل، على ما هو مهينٌ لبايدن الذي أثار الشفقة، من فرط ضعف إدارته أمام فاشيّة نتنياهو وطواقمه، عندما قال ما قال، أول من أمس، وهو يُعلن التوصّل إلى الاتفاق (الملحمي بوصف ترامب)، عن استناد هذا الإنجاز إلى إطار الصفقة الذي أعلنه بايدن نفسُه في مايو/ أيار الماضي، وهذا صحيحٌ، غير أن الأصحّ أن الرئيس الأميركي المنصرف لم يُظهر "العين الحمراء" لحليفه نتنياهو، فأساءَ إلى نفسه وبخّس هيبةَ إدارته، حتى إذا أوْمضت هذه العين بالتهديد إيّاه، للجميع، بالجحيم، مرّتيْن لا ثلاثاً، صِرنا في إيقاعٍ آخر، صِرنا أمام انعطافةٍ كبرى يعبُر فيها الغزّيون إلى شيءٍ من الحياة، شيءٍ مما يُنجيهم من قتلٍ أكثر وتهديمٍ أشدّ. سيُحاولون، أولاً، أن يعيشوا 42 يوماً من دون عدّ شهداء، ومن دون أكفانٍ بيضاء على شاشات الفضائيات، من خانيونس ورفح وجباليا وعموم القطاع.

مرّة أخرى، الوقتُ لتزجية أرطالٍ من الآمال إلى كل ناس غزّة بأن يُسعفوا، ما في وُسعهم أن يفعلوا،  أرواحهم من اليأس الثقيل الذي أتعبَهم طويلاً، وفي البال أن الصعوبات هناك عصيّةٌ على العدّ، وأن الحال الفلسطيني في العموم شديدُ التعاسة، وأن الألغام في اتفاق المراحل الثلاث وفيرةٌ، والمُشتهى أن يبقى وعيد ترامب بالجحيم قائماً.

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.