جثّة وحيدة على قارعة الطريق

12 فبراير 2025
+ الخط -

لم أكنْ مترقّبة لإزالة حاجز "نتساريم" الذي يفصل الطريق البرّي بين شمال القطاع وجنوبه، لأن ما شاهده العائدون على الشريط الغربي المُطلّ على البحر حين عادوا سيراً على الأقدام، وفي اليوم السابع لاتفاق توقيع الهدنة، كان مروّعاً ولا يمكن أن يتخيّله عقل، وقد التقطت الكاميرات العظام الآدمية التي جفّ سائل الحياة منها، ولم يتبقّ بها ما يدلّ على هويّة أصحابها إلا سعيد الحظّ ممن كان يملك علامة مميزة، كعَرج في ساقه، فبدت عظمة ساق أطول من الأخرى، فتعرّف الأهل إلى هويّته، وبعد أن تغذّت الكلاب الضالة وقطط الشوارع على لحمه حتى شبعت وسمنت. أمّا مشاهد الجثث المُتحلّلة بعد إزالة حاجز "نتساريم" فقد كانت أكثر، لأنها محاولات لم تتوقّف للعبور والانتقال هرباً من الجوع تارة، وأملاً في الوصول إلى الأمان تارّة أخرى، ورغبة في لقاء الأهل ومن تبقّوا من العائلة، كسبب مؤكّد يدفع صاحبه لكي يجازف بحياته، على أمل ألّا يلحظه القنّاصة أو تلتقطه كاميرات المراقبة وأجهزة التتبّع، ناهيك عن الطائرات المُسيّرة التي لا تنقطع عن أجواء سماء غزة، والتي لا تترك شاردة ولا واردة، ولكن اليأس حين يتأصّل في قلب إنسان ضعيف بائس، فيخيّل إليه أن هناك بعض الأمل، ولا يعرف أن الأمل هذا ما هو إلّا سراب ووهم، وهو المحاولة الأخيرة التي يكون ثمنها غالياً وهو حياته.

أوجعتني وبشدّة، صورة بقايا عظام متحلّلة لرجل وامرأة على قارعة الطريق، وحاولت أن أتخيّل قصة لمحاولة عبورهما هذا الطريق الخطر، وحيث الموت يتقافز في كل خطوة مثل برغوث متعطّش للدماء في ليلة قائظة، وحاولت أن أرسم خطوطاً مُتخيّلة لمحاولتهما العبور، ولا يمكن لأيّ شخص أن يتخيّل إنْ كانا في طريقهما إلى الشمال، أم أنّهما كانا يقصدان الجنوب، ولكنهما قُتلا وبقيا وحيدين على قارعة الطريق، فلنا أن نتخيّل أن أحدهما قد حاول أن يُسعف الآخر، أو أنّهما قد لفظا أنفاسهما الأخيرة بسرعة، دون ألم، لأنّهما كانا متقاربين جداً، ولم يبقَ منهما سوى مُتعلّقات صغيرة، وبعض العظام، وكانت الملابس تشير إلى جنسيهما، وبأنّهما كانا ذكراً وأنثى، فهل كانا أُمّاً وابنها، أم زوجاً وزوجة؟ وربما كانا شقيقين، ولا يوجد احتمال رابع، لأن هذه هي العلاقات المُتخيّلة في مجتمع غزة، ما لم يكن هناك هذا الاحتمال أن تكون هذه العظام لأُمّ زوجة وزوج ابنة، ففي مجتمع غزّة هناك احترام وتقدير لرابطة المصاهرة، بحيث تكون أم الزوجة بمثابة الأم لزوج ابنتها.

كان الأحد الماضي يوماً أليماً بقدر المشاهد التي استمرّت الكاميرات بنقلها، وكأنّ هذه الصور تريد أن تقول إنّ طول الحرب قد أثقل من خساراتنا، فإن كان أهل غزّة قد خسروا حقّهم في الحياة الكريمة، فها هم يخسرون حقّهم في أن يتعرّف إليهم أحد بعد أن أصبحوا عظاماً نخرة، وخسروا حقّهم في تطبيق مبدأ "إكرام الميّت دفنه"، فأصبحوا جُثثاً وحيدة على الطّرقات المبتلّة بالمطر حيناً، والمتوقّدة بحرارة شمس الصيف حيناً، وفقدوا حقّهم في أن يتعرّف إليهم أحدٌ خاصّة أنّ هناك عائلات كثيرة قد أُبيدت عن بكرة أبيها، ولم يتبقَّ منها أحد على قيد الحياة لكي يتعرّف إلى جثّة أحد أفرادها.

إن كان لا بدّ من خطّة لليوم التالي للحرب، فيجب أن يكون أحد بنودها جمع العظام على طريق الموت، وإخضاعها لفحص الحمض النووي (DNA)، الذي بات التّقنيّة العلميّة الأكثر دقّة التي تدلّ على شخصية الإنسان من بقاياه، وأن يحدُث ذلك بأسرع وقت، لأن هذه العظام الوحيدة التي مرّ بها الناجون قد تألّمت أكثر مما نتخيّل وهي تشهد على ظلم الإنسان وجبروته، ولو تحدّث أصحابها، لربّما نادوا على أهليهم وهم يمرّون بجوارهم في رحلة رجوعهم إلى شمال غزة، فما أصعب مشهد الأحياء الذين يمرّون بين العظام، وما أقسى البشر حين يقرّرون أن تكون الطّرقاتُ مقابر للأبرياء.

سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.